الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

دلالات الموقف الروسي من الاشتباكات في السودان

  • مشاركة :
post-title
الأزمة السودانية- أرشيفية

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

حظي الصراع السوداني بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع منذ اندلاعه فى 15 أبريل 2023، باهتمام القوى الكبرى لا سيما تلك الطامحة إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، والتحول إلى نظام متعدد الأقطاب ومن بين تلك القوى روسيا التى تسعى منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لتعزيز مكانتها على مسرح السياسة الدولية، من خلال تعزيز تواجدها فى أقاليم العالم المختلفة ومنها قارة إفريقيا، فى ظل ما تمتلكه القارة من مقومات اقتصادية وبشرية، وسوق واعدة.

الموقف الروسي:

تمحور الموقف الروسي منذ انطلاق الصراع السوداني من خلال بعدين أساسيين: الأول يتمثل فى مطالبة وزارة الخارجية الروسية بضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في السودان، وحل القضايا الخلافية المحتملة من خلال المفاوضات، جاء ذلك فى بيان للوزارة فى 17 أبريل 2023، عقب لقاء السفير السوداني لدى موسكو محمد سراج مع ممثل الرئيس الروسي الخاص للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوجدانوف، حيث تم في اللقاء أيضًا- وفق البيان- مناقشة التطورات الجارية في سياق الاشتباكات المسلحة الدائرة بين وحدات الجيش النظامي والدعم السريع، كما تم التأكيد على أهمية ضمان أمن السفارة الروسية لدى الخرطوم وجميع المواطنين الروس في السودان.

أما البعد الثاني وربما الأهم وهو ما تمثل في توجيه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فى 25 أبريل 2023 نداءً عاجلاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية يحثها فيه على عدم التدخل فى الأزمة السودانية الحالية، وترك الأطراف السودانية المشتبكة للتفاوض فيما بينها، وذلك بحسب وكالة نوفوستي الروسية، داعيًا طرفي الاشتباكات في السودان للتفاوض، ومذكرًا الأمريكيين بأنهم من قسموا السودان بتدخلاتهم إلى السودان وجنوب السودان، وكان عليهم أن يساعدوا الدولتين الجديدتين على التعايش، وتطوير الاقتصاد، وضمان رفاهية مواطنيهما، لكن شيئًا ما لم يعجب الأمريكان، الذين أعلنوا فرض عقوبات على قيادتي السودان وجنوب السودان، موصيًا باستخلاص الاستنتاج الأهم من الأزمة السودانية الحالية، وداعيًا بعدم التدخل بين الأفارقة وتركهم للتفاوض فيما بينهم، حتى لا نضيف لعنائهم حل مشاكلنا الخاصة وفرض مطالب معينة عليهم من الخارج لا تلبى مصالح بلدانهم.

دلالات متعددة:

يعكس الموقف الروسي من الصراع السوداني العديد من الدلالات لعل أهمها:

(*) أهمية إفريقيا في الاستراتيجية الروسية الجديدة: وفقًا للاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، والتي وقعها الرئيس فلاديمير بوتين في 31 مارس 2023، وقدمها وزير الخارجية سيرجي لافروف خلال اجتماع للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن القومي الروسي، فإنها تعكس رؤية روسيا للنظام الدولي ودورها فيه، ومستقبل سياستها الخارجية وتوجهاتها وأهدافها وأدواتها، وعلاقاتها بالنظم الإقليمية ومنها إفريقيا التي تعتبرها روسيا أحد أبرز المناطق التي تلوح فيها فرص الانتشار الاستراتيجي الروسي مقابل نفوذ الدول الغربية، وتسعى روسيا لتعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الدول الإفريقية سواء من خلال التعاون الجماعي في إطار منتدى التعاون الروسي الإفريقي وقمم الشراكة بين الجانبين، حيث من المقرر أن تستضيف مدينة سانت بطرسبرج القمة الثانية والمنتدى الاقتصادي الروسي الإفريقي في الفترة من 26 إلى 29 يوليو 2023، أو من خلال التعاون الثنائي فى مجالات التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات في قطاعات الغذاء والطاقة والأمن والدفاع. وتماشيًا مع تلك الاستراتيجية يكتسب السودان أهميته بالنسبة لروسيا من خلال موقعه الجيوسياسي الذي جعله البوابة للقرن الإفريقي، كما يحتل وفق بعض التقديرات المركز الثاني في إنتاج الذهب على مستوى القارة الإفريقية، ومن العشرين دولة الأكبر مساحة في العالم.

(*) تخفيف حدة العقوبات الغربية: تعتبر روسيا أن إفريقيا وصراعاتها ومنها الصراع السوداني بين قوات الجيش والدعم السريع، من الممكن أن تمثل فرصة مناسبة للتخفيف من حدة العقوبات الأمريكية والغربية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، وهي العقوبات التي استهدفت عزل وحصار روسيا لا سيما وأن تلك العقوبات تنوعت ما بين مقاطعات اقتصادية، وحجز أموال روسية فى بنوك دولية، ووضع حد لأسعار النفط والغاز الروسي في الأسواق الأوروبية، ووضع قيود على استيراد الحبوب من روسيا. لذلك اتجهت روسيا نحو تفعيل علاقاتها مع أقاليم العالم المختلفة، ومنها إفريقيا التي شهدت زيارات متكررة لمسؤولين روس رفيعي المستوى. وللمفارقة فإن العقوبات التي فرضتها الدول الغربية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على نظام البشير واعتبرت السودان دولة راعية للإرهاب أدت إلى اتجاه السودان نحو تعميق علاقاته بروسيا ومنح الشركات الروسية فرص للتنقيب عن البترول والذهب فى السودان، بما عزز من التعاون الاقتصادي بين البلدين. وبرغم اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية قرارًا برفع العقوبات ومنها رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب عقب إزاحة نظام البشير واتفاق المكونين المدني والعسكري على تشكيل حكومة عبدالله حمدوك، في فبراير 2021، إلا أنها عادت مرة أخرى لسياسة العقوبات بعد الإطاحة بحكومة حمدوك في أكتوبر 2021، حيث جمدت الولايات المتحدة 700 مليون دولار من المساعدات المباشرة للحكومة السودانية، وعلقت العمل بتخفيف أعباء الديون، في حين جمد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي 6 مليارات دولار من المساعدات الفورية مع خطط لإلغاء 50 مليار من الديون.

(*) مواجهة النفوذ الغربي فى إفريقيا: وفقًا للرؤية الأمريكية فإن إفريقيا على حد وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن هي مستقبل العالم، لذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، لإعادة التموضع في إفريقيا بعد فترات ممتدة من التراجع، وقد تجلى ذلك فى استضافة الولايات المتحدة الأمريكية للقمة الأمريكية الإفريقية الثانية، في ديسمبر 2022. وتسعى روسيا لمواجهة التمدد الغربي فى إفريقيا من خلال تعزيز حضورها وزيارات مسؤوليها رفيعي المستوى إلى دول القارة، كان أحدثها جولة سيرجى لافروف مطلع 2023 والتي ضمت عدة دول هي: مالي وموريتانيا والسودان، وجنوب إفريقيا، وإريتريا، وإسواتيني، وقد أعلن لافروف عقب الجولة عن إخفاق الولايات المتحدة في عزل روسيا دوليًا، وأن روسيا تقيم علاقاتها مع الدول على حسن الجوار الممتد بالمعنى الواسع للمفهوم. وللمفارقة فقد تزامنت زيارة لافروف إلى السودان في فبراير 2023 مع زيارة ستة مبعوثين غربيين للسودان من الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والنرويج، والاتحاد الأوروبي. وهي الزيارة التي أعلن خلالها لافروف عن دعم جهود السودان الهادفة إلى إنهاء العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي بحظر الأسلحة عن السودان منذ عام 2005 بعد تفجر النزاع الدامي في إقليم دارفور غرب السودان.

(*)الرغبة في تدشين القاعدة البحرية الروسية في السودان: تخطط روسيا منذ عام 2017 لإنشاء قاعدة روسية على البحر الأحمر في السودان، وذلك من خلال إنشاء مركز دعم لوجيستي للبحرية الروسية بالقرب من ميناء بورتسودان يسهم في الوصول المباشر إلى مناطق النفوذ الروسي فى جمهورية إفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى منطقة الساحل والصحراء التي تنتشر بها الشركات الروسية العاملة في مجال التعدين، كما تتطلع روسيا إلى زيادة تأثيرها في القرن الإفريقي وتوسيع حضورها في مضيق باب المندب. وفى ديسمبر 2020 أعلنت موسكو عن اتفاق مع السودان لبناء وتشغيل القاعدة التي تم التفاوض عليها في عهد البشير، فيما أعلن السودان في 2021 أن الاتفاقية لازالت قيد المراجعة. وربما يعود ذلك إلى أنه لا توجد مؤسسة تشريعية منذ الإطاحة بالبشير في أبريل 2019.

(*) مساندة نشاط مجموعة فاجنر: وفقًا لتصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 25 أبريل 2023، فإنه يحق للسودان الاستفادة من الخدمات الأمنية لمجموعة فاجنر، وأن فاجنر هي شركة أمنية خاصة. في المقابل أكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن في 24 أبريل أن الإدارة الأمريكية لديها قلق عميق مع دور فاجنر في السودان؛ لكون دورها في العديد من الدول الإفريقية يجلب معه المزيد من الموت والدمار. لذلك فإن ثمة رؤية أمريكية تعتقد بأن العنف في السودان يخلف فراغًا في السلطة، كانت تأمل إدارة بايدن في تجنبه، ويعد مقاتلو فاجنر من بين اللاعبين الذين يحاولون ملء هذا الفراغ وفقاً لمسؤولين أمريكيين منهم جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي السابق لمنطقة القرن الإفريقي الذي يرى أنه إذا لم يجر الوصول إلى وقف لإطلاق النار، فإن هذا لن يتسبب في بؤس 48 مليون شخص فحسب، وإنما سيزداد الإغراء أمام قوى خارجية لأن تزيد القتال اشتعالا عبر التدخل المباشر. وعبر عن ذلك التوجه رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك بأن الحرب الأهلية في السودان ستجعل من الصراعات في سوريا واليمن وليبيا وكأنها مجرد مسرحية صغيرة.

مجمل القول إن الموقف الروسي من الصراع السوداني بين الجيش والدعم السريع يرتبط بالمصالح الروسية في القارة الإفريقية، والتي تقوم على تعزيز التعاون مع دول القارة ومنها السودان في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، لمواجهة النفوذ الغربي، بما يجعل دول القارة ساحة للتخفيف من الضغوط الغربية على موسكو بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ويعزز من الوجود الروسي في منطقة واعدة وصفها الرئيس الأمريكي بايدن بأنها مستقبل العالم.