تأتى جولة رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا الإفريقية، التي بدأت في 29 من أبريل 2023، وتضم مصر، وغانا، وكينيا، وموزمبيق لتعكس أهمية القارة الإفريقية لدى صانع القرار الياباني، لاسيما وأن القارة أضحت مجالًا للتنافس بين القوى الدولية التي تسعى لتعزيز مكانتها ونفوذها على مسرح السياسة الدولية، في ظل ما تمتلكه القارة من موارد طبيعية وبشرية، فضلًا عن كونها سوقًا استهلاكية ضخمة لمنتجات الدول الصناعية.
كما تعكس الجولة ما تبناه "كيشيدا" منذ توليه المسؤولية في اليابان في أكتوبر 2021، وأطلق عليه "دبلوماسية واقعية لعصر جديد" تسعى لتحقيق عدة أهداف أهمها: التحقق من تحلي اليابان بأعلى مستوى من الاستعداد والجاهزية، والتصميم على الدفاع الكامل عن القيم العالمية، والحماية التي لا تقبل النقاش للسلام والاستقرار في اليابان، والاضطلاع بدور قيادي في المجتمع الدولي، بالإضافة إلى إنجاز كل أهداف الدبلوماسية المتوازنة والحازمة.
أهمية متزايدة:
تكتسب الزيارة أهميتها في هذا التوقيت من عدة أوجه: أولها، أنها تعد الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الياباني إلى إفريقيا منذ توليه مقاليد السلطة في أكتوبر 2021، والذي تبنى إطلاق اليابان لاستراتيجية جديدة لتتحول إلى أحد الأقطاب الرامية إلى تعزيز مكانتها الدولية، حيث قررت اليابان التخلي عن سلميتها والتوجه نحو زيادة موازنتها العسكرية، لتصبح بذلك خامس أعلى موازنة عسكرية. ففي ديسمبر 2022، كشفت اليابان النقاب عن موازنة قياسية للسنة المالية الحالية بدءًا من أبريل 2023 تبلغ 114.4 تريليون ين (863 مليار دولار)، مدفوعة بزيادة الإنفاق العسكري وتكاليف الضمان الاجتماعي المرتفع للسكان اليابانيين، التي تزيد بينهم نسب المتقدمين في السن.
وثانيها، أن الجولة تأتي قبيل اجتماع قمة مجموعة الدول الصناعية السبع المقرر عقده في هيروشيما خلال شهر مايو الجاري، وذكرت هيئة الإذاعة اليابانية أن جولة كيشيدا الإفريقية تأتى في إطار جهود بناء الزخم نحو اجتماع قمة مجموعة الدول الصناعية السبع، والتأكيد على روابط اليابان مع جنوب العالم، خاصة في مجالات مثل الغذاء والطاقة.
وثالثها، أن الزيارة تأتى عقب الزيارات المتعاقبة للقادة والمسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى إلى دول القارة الإفريقية، ومنهم نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس وأنتوني بلينكن وزير الخارجية، ومندوبة الولايات المتحدة الأمريكية بالأمم المتحدة وزوجة الرئيس الأمريكي بايدن. وتسعى واشنطن وطوكيو إلى تحقيق تكاملية الأدوار داخل القارة، وهو ما أشار إليه كيشيدا بالاستثمار في الفرص التي توفرها استراتيجية الرئيس بايدن "الحلفاء أولًا".
ورابعها، ما تمثله القارة من أهمية لليابان التي تعاني من نقص في الموارد الطبيعية اللازمة للتصنيع وتسعى لتأمين إمداداته من الخارج، حيث تمتلك إفريقيا مقومات اقتصادية جعلت الولايات المتحدة تصفها بأنها مستقبل العالم، إذ يقع أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة على مستوى العالم في القارة، كما أن سكان القارة يبلغ عددهم 1.421 مليار نسمة في نوفمبر 2022، بما يمثل 17.8% من عدد سكان العالم، كما أن شباب القارة دون الخامسة والعشرين يشكلون قرابة 65% من سكانها، بما يجعلها سوقًا مستقبلية واعدة للعمل، كما يمكن للقارة أن تسهم في سد الاحتياجات اليابانية من المواد الخام اللازمة للتنمية، باعتبار إفريقيا تستحوذ على ما يقرب من 10% من احتياطي البترول عالميًا، و5.7% من احتياطات الغاز الطبيعي عالميًا. كما تشير التوقعات المستقبلية إلى زيادة عدد سكان القارة السمراء إلى 2.2 مليار نسمة بحلول عام 2050، ووصول حجم الاقتصاد الإفريقي إلى 5 تريليونات دولار بحلول 2025.
دوافع متعددة:
تنوعت دوافع زيارة رئيس الوزراء الياباني، والتي يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) تنمية المصالح الاقتصادية: سعت اليابان لمأسسة مصالحها الاقتصادية في إفريقيا، وذلك من خلال تأطير التعاون بين الجانبين، حيث يمثل مؤتمر طوكيو الدولي حول التنمية الإفريقية" تيكاد"، الذي انطلق منذ عام 1993 ويعقد بشكل دوري، أحد الأدوات النافذة لتوجهات اليابان التنموية في إفريقيا؛ لتعزيز فرصها الاستثمارية داخل دول القارة، وقد استضافته تونس نسخته الثامنة في أغسطس 2022، وأعلنت اليابان خلال المؤتمر تخصيص 30 مليار دولار لمشروعات تنموية في إفريقيا خلال السنوات الثلاث المقبلة، إضافة إلى تقديم 130 مليون دولار لمشروعات الأمن الغذائي، ومساعدات غذائية قدرها 300 مليون دولار بالتعاون مع البنك الإفريقي للتنمية، كما أعلنت طوكيو عن عزمها تقديم قروض بـ5 مليارات دولار بالشراكة مع البنك الإفريقي للتنمية بهدف تمويل التنمية المستدامة والإصلاح المالي في القارة، كما خصصت 4 مليارات دولار لمشروعات النمو والاقتصاد الأخضر والقضاء على التلوث الكربوني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء. كما تعد وكالة "جايكا" أيضًا من المؤسسات اليابانية الداعمة للتنمية في إفريقيا، إذ نفذت العديد من المشروعات في المجالات الزراعية والبنية التحتية ومكافحة الفقر ودعم الأمن الغذائي.
وترجمةً لتلك التوجهات تمثل المصالح الاقتصادية أحد ركائز جولة كيشيدا الإفريقية والتي استهلها بزيارة مصر باعتبارها بوابة العالم نحو إفريقيا، ووفقًا لبيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية فإن حجم التبادل التجاري بين مصر واليابان بلغ عام 2022 نحو مليار و25 مليون دولار، وأن معدل التبادل التجاري بين البلدين بلغ خلال الربع الأول من العام الجاري نحو 164 مليون دولار. فيما بلغت الاستثمارات اليابانية في مصر حتى يونيو 2021 نحو 408.2 مليون دولار، في مجالات الصناعات الهندسية والمعدنية وصناعة السيارات والأدوية والمنتجات الغذائية والخدمات المالية والبنية التحتية والسياحة وتكنولوجيا المعلومات والطاقة المتجددة.
(*) الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى المشاركة الاستراتيجية: صرحت أونو هيكاريكو، مسؤولة الإعلام والدبلوماسية العامة بالخارجية اليابانية، خلال لقائها مع عدد من المحررين الدبلوماسيين على هامش زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى مصر، بأن أبرز ما تم التوصل إليه خلال المحادثات المصرية-اليابانية هو الارتقاء بمستوى العلاقات بين البلدين إلى مستوى "علاقة مشاركة استراتيجية"، لاسيما وأن مصر تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة لليابان لعدة اعتبارات، أهمها العلاقات الوطيدة التي تربط بين البلدين، وتعدد أوجه التعاون بينهما في عدة مجالات مثل الطاقة المتجددة والنقل والتعليم الأساسي والجامعي، وكذلك اهتمام اليابان بمصر كبوابة لنفاذ صادراتها إلى الأسواق الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن التوافق بين البلدين في مختلف القضايا التي تهم المنطقة والمجتمع الدولي، ووصف رئيس الوزراء الياباني مصر بأنها تلعب دورًا مهما للغاية في سلام واستقرار منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وفى الحفاظ على مبادئ النظام الدولي.
(*) مواجهة تصاعد النفوذ الصيني: تعد الصين أكبر شريك تجاري لقارة إفريقيا، وهو ما تقره بيانات الهيئة الوطنية العامة للجمارك بأن التجارة بين الصين وإفريقيا بلغت نحو 282 مليار دولار خلال عام 2022. ومنذ تسعينيات القرن الماضي تعزز بكين وجودها بإفريقيا الذي تصاعد منذ عام 2013 مع انطلاق مبادرة الحزام والطريق. وتشير التقديرات إلى أن حجم الاستثمار الأجنبي الصيني المباشر في إفريقيا يصل إلى نحو 44 مليار دولار، كما تملك الصين نحو 12% من ديون الدول الإفريقية التي وصلت عام 2020 إلى ما يقرب من 696 مليار دولار. ولمأسسة ذلك التعاون، دشنت الصين منتدى التعاون الصيني الإفريقي منذ عام 2000، والذي يعقد بشكل سنوي لتعزيز الشراكة بين الجانبين في مجالات البنية الأساسية والصحة والتنمية الاقتصادية والإنسانية، وهو ما عزز من الوجود الصيني في إفريقيا. وبمقارنة الاستثمار الصيني بنظيره الياباني في إفريقيا يتضح حجم الفارق الكبير لصالح الأول، فوفقًا لبيانات الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فقد تجاوزت حصة الصين من الصادرات والواردات الإفريقية 20%، بينما بلغت حصة اليابان أقل من 3%، كما بلغت استثمارات مبادرة الحزام والطريق الصينية أكثر من 140 مليار دولار في مشروعات البنية التحتية الإفريقية منذ عام 2013، في حين تقدر تعهدات والتزامات اليابان لإفريقيا بـ3 مليارات دولار.
(*) التكامل مع الدور الأمريكي في إفريقيا: انتهجت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية جديدة في عهد الرئيس جو بايدن لإعادة تموضعها في القارة الإفريقية، بعد سنوات ممتدة من التجاهل وصفها ترامب بأنها "قارة ذات مشكلات معقدة"، وتجلى ذلك الاهتمام في استضافته للقمة الأمريكية الإفريقية الثانية بواشنطن. وتتكامل اليابان مع الدور الأمريكي الرامي لإعادة التموضع لمواجهة النفوذ الصيني المتمدد في القارة السمراء. وهو ما تجلى في استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة، والتي وصفت الصين لأول مرة بالتحدي الاستراتيجي غير المسبوق، فيما وصفته الولايات المتحدة الأمريكية في استراتيجيتها للأمن القومي الصادرة في أكتوبر 2022 بالمنافس الوحيد الساعي لإعادة تشكيل النظام العالمي. لذلك أعرب رئيس الوزراء الياباني قبيل جولته الإفريقية عن استعداده لتعزيز الروابط مع الجنوب الذهبي، وهو مصطلح يشير إلى الدول النامية جنوب خط الاستواء، كما تخطط اليابان للدفع بمشروع الممر الآسيوي الإفريقي، لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، والترويج للنموذج التنموي الياباني في القارة، للاستفادة من الزخم التصويتي الإفريقي في المحافل الدولية، والذي يقدر تقريبًا بثلث القوة التصويتية في الأمم المتحدة.
مجمل القول، إن جولة رئيس الوزراء الياباني الإفريقية تعكس محورية القارة السمراء في استراتيجيات الدول الرامية لتعزيز مكانتها في تراتبية النظام الدولي الجديدة، وفى ظل ما تمتلكه القارة من موارد طبيعية وبشرية، من المحتمل أن تشهد دول القارة صراعًا لإعادة تشكيل التحالفات القائمة، بعدما قررت الدول المتنافسة على قمة النظام الدولي أن تجعل من الأقاليم الصاعدة ومنها إفريقيا مجالًا لاختبار ممارسات النفوذ والسيطرة.