مع دخول الاشتباكات التي تشهدها العاصمة السودانية الخرطوم والعديد من المدن السودانية يومها الـ11، منذ اندلاعها فجر الـ15 من أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وميليشيا الدعم السريع المُتمردة، بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي"، والتي أسفرت عن مقتل مئات الأشخاص وإصابة الآلاف؛ بات الجميع يتساءل عن دور القوى السياسية السودانية بمختلف أطيافها وعقائدها في هذه الأزمة، ونظرًا لكون التيار الصوفي بمختلف جماعاته ومريديه يحتل مكانة بارزة داخل الدولة الواقعة بشمال شرق إفريقيا، فإن تفاعله مع الأزمة الراهنة ودعمه لطرف دون آخر؛ سيحدث تأثيرًا بلا شك في تحديد مسارها ومآلاتها، نظرًا لتأثيره المجتمعي العميق، ودوره في أحيان عدة في صياغة المشهد السياسي.
ومن الجدير بالذكر أن السلطة الحاكمة في السودان لطالما استعانت على مدار السنوات الماضية بزعماء الجماعات الصوفية، إذ تشكل قوة هائلة وتأثيرًا داخل المجتمع السوداني، وهناك ما يقرب من 40 طريقة صوفية تنتشر في مختلف ربوع السودان، وعليه، تعتبر هذه الجماعات بمثابة "ورقة قوة" للطرف الذي يريد الإمساك والهيمنة بزمام السلطة، ومن المعروف أن الصوفيين في السودان لا يرغبون في الصدام برأس السلطة وجيش البلاد، ويشاركون في العملية السياسية حينما يطلب منهم ذلك.
مواقف صوفية:
وفي هذا الإطار، سيتم استعراض أبرز مواقف رجال الصوفية في المشهد السياسي السوداني خلال الفترة الأخيرة، وهل كان دعمهم لـ"البرهان" أم "حميدتي" وقتها، وذلك للوقوف على دورهم خلال الأزمة الراهنة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(*) مبادرة صوفية لدعم "البرهان": في أواخر يوليو الماضي، أطلق الزعيم الديني الصوفي "الطيب الجد ود بدر" مبادرة، حملت اسم "نداء أهل السودان"، ضمت ما يقرب من 120 حزبًا سياسيًا تشمل زعماء الطرق الصوفية والقبائل، وأهدافها الرئيسية، تتمحور حول الحشد لدعم الجيش وقوات الأمن الأخرى لضمان الوحدة، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تشهدها البلاد وتحقيق الأمن والسلام لضمان الوصول إلى إجراء عملية انتخابات نزيهة خلال 18 شهرًا وإطلاق سراح المعتقلين، هذا بالإضافة إلى تفويض المجلس السيادي برئاسة قائد الجيش "البرهان" لتشكيل حكومة كفاءات وطنية، وقد رحب بهذه المبادرة "البرهان"، في حين عارضها "حميدتي" وتساءل حول من يقف خلفها ويدعمها، مما دفع الزعيم الصوفي "الطيب الجد" إلى تجاهل محاولات "حميدتي" لعرقلتها، وانطلق مؤتمر المبادرة في 14 أغسطس الماضي، وخرج مئات السودانيين في تظاهرات لدعمها ودعم "البرهان" لوضع حد لإنهاء الاضطرابات السياسية في البلاد.
(*) "حميدتي" يخاطب ود التيار الصوفي لدعمه: وبعد شهرين من مبادرة "نداء أهل السودان"، حاول قائد ميليشيا الدعم السريع "حميدتي" استقطاب الصوفية لدعمه، لإداركه جيدًا تأثيرهم في المجتمع، وخرج في 18 أكتوبر الماضي، لإلقاء كلمة أمام حشد جماهيري بمنطقة "ود السفوري" بالنيل الأبيض، قال فيها: "أنا ابن تقابة قرآن ما قريت في جامعة الخرطوم أو هارفارد، وأحظى بدعم الصوفية في جميع أنحاء السودان، بل حتى على مستوى العالم"، إلا أن هذا التصريح قوبل بانتقادات عدة من السودانين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين أفادوا بأن الطرق الصوفية بعيدة عن أفعال "حميدتي" ولا تدعمه، إذ قال الناشط السوداني آدم الشيخ، في تغريدة على حسابه بموقع "تويتر": "كل الطرق الصوفية داعمني، حبيبنا الطرق الصوفية بعيد من أفعالكم"، وبالإضافة لذلك، فقد كشفت وسائل إعلام سودانية في 16 أبريل الجاري، أن "حميدتي" حاول مؤخرًا تدشين تحالف يعتمد على أعيان القبائل وزعماء الطرق الصوفية، لدعمه كمناصر للثورة ومؤيد للحكم المدني، ثم الانفراد بالسلطة.
(*) مباحثات المجلس الأعلى للتصوف مع "البرهان": حرص "البرهان" الذي ينحدر من أسرة دينية تتبع الطريقة الختمية (إحدى الطرق الصوفية البارزة والمؤثرة في الحياة السياسية السودانية)، خلال الأربعة أعوام الماضية، على عقد عدة لقاءات مع قيادات المجلس الأعلى للتصوف، أكد خلالها دور الطرق الصوفية في إعلاء القيم المجتمعية بالبلاد واهتمامها المتواصل بإحلال الأمن والاستقرار بالسودان، وكان أبرزها اللقاء الذي حدث في سبتمبر 2020، والذي تم خلاله مناقشة أبرز القضايا التي تخص المواطن السوداني وتسهم في الحفاظ على أمن واستقرار البلاد، وفقا لما أعلنه عبد المحمود الشيخ بلال، ممثل المجلس الأعلى للتصوف في السودان.
تحركات صوفية:
في ضوء التطورات التي تم ذكرها سابقًا، يمكن القول إن ذلك انعكس على موقف التيار الصوفي من الأزمة الراهنة التي يشهدها السودان، خاصة بعد أن وجه عدد من السودانيين دعوات إلى كل المشايخ والطرق الصوفية والمنظمات المدنية أيضًا للتدخل كي تتوحد البلاد وتوقف الصراع القائم بجميع الولايات والمناطق السودانية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(*) مسيرات صوفية لدعم القوات المسلحة السودانية: عقب أيام قليلة من اندلاع الاشتباكات، ونظرًا لقدرة التيار الصوفي على جمع أتباعه، خرجت مسيرات عدة في جميع أرجاء السودان في الفترة من (19-23 أبريل الجاري) لدعم الجيش السوداني ومناصرته في عملياته العسكرية لحسم تمرد ميليشيا الدعم السريع، وأغلب هذه المسيرات كان في الولايات التي لها تأثير صوفي، مثل ولاية النيل الأزرق، ومدينة دنقلا عاصمة الولاية الشمالية، وبمناطق الكاسنجر وتنقاسي وأبودوم والحواشاب بنوري والسقاي، ورفع المشاركون في المسيرات شعارات، منها: "الجيش صاحي"، و"إنهاء التمرد"، و"جيش واحد شعب واحد" و"الكاسنجر تساند القوات المسلحة"، إضافة لذلك فقد خرجت مسيرات جماهيرية في مروي أعلنت وقوفها بجانب القوات السودانية للتصدى للمتمردين من الدعم السريع، وردع كل من تسول له نفسه المساس بأمن واستقرار السودان، مؤكدة على استنفار الجهود الشعبية على مستوى المحليات في مروي لدعم ومساندة الجيش السوداني.
(*) دعوات خارجية صوفية لاحتواء الأزمة السودانية: ونظرًا لكون السودان المنبع الرئيسي للصوفية في عدد من بلدان المنطقة العربية، وأحد المؤثرات الفاعلة بالمشهد السياسي السوداني، ولديها القدرة على القيام بأدوار متعددة -ليست اجتماعية فقط- بمناطق نفوذهم لاحتواء الاضطرابات القائمة، دعا بعض رجال الصوفية في الخارج وخاصة بالجزائر أنصارهم داخل السودان لتعقيل أبناء السودان لوقف الاقتتال، ففي 22 أبريل الجاري، دعا الخليفة العام للطريقة التيجانية بعين ماضي، الشيخ "علي بلعرابي التيجاني" خلال "الندوة الإفريقية الكرامة" بالجزائر، بضرورة احتكام أبناء السودان للعقل ووقف الفوضي التي يستفيد منها أطراف خارجية، تريد ضرب استقرار دول الأمة الإسلامية، في كل زواياها وجغرافيتها، وفي 19 أبريل الجاري، دعت الخلافة العامة للطريقة التيجانية بالجزائر، في بيان لها، الفرقاء السودانيين إلى "تغليب صوت الحق والحكمة على صوت الرصاص، ورأب الصدع في البلاد".
(*) تحركات أحزاب صوفية لوقف الاقتتال: بدأ الحزب الاتحادى الديمقراطى الأصل (أبرز الأحزاب الصوفية في السوادن) الذي يتزعمه مرشد الطريقة الصوفية الختمية، محمد عثمان الميرغنى، في إطلاق دعوات لتوحيد الأطراف السوادنية، إذ كشف "محمد عبد الرحيم" القيادي البارز بالحزب بالخرطوم، وأحد أبرز الشخصيات المدنية الفاعلة بالسودان، في تصريحات صحفية، في 24 أبريل الجاري، عن إجراء الحزب اتصالات مع مختلف القوى السياسية والحزبية والمدنية بالبلاد للوصول إلى صيغة تفاهمية لإعلاء مبدأ الحوار فى السودان ،وإلزام كل الأطراف المتحاربة للدخول فى حوار شامل، يضع نهاية للدمار الذى تتعرض له البلاد، كما أن حزب الأمة القومي السوداني الذي يعد من الأحزاب التي تعلي من شأن التصوف في البلاد، -كان يتزعمه الزعيم الصوفي "الصادق المهدي" ويتبع عدد من أعضائه "طائفة الأنصار"- أعلن في تصريحات تلفزيونية في 23 أبريل الجاري عن مقترح استضافة رئيس مجلس السيادة السوداني "البرهان" وقائد ميليشيا الدعم السريع "حميدتي" في حوار لإنهاء الأزمة بدولة إقليمية، كما كشف رئيس حزب الأمة "فضل الله برمة ناصر"، في 21 أبريل الجاري، عن إجراء الحزب اتصالات مع الأطراف المتصارعة، ودعا مجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى التدخل السريع لوقف الحرب في السودان.
وفي ضوء ما تقدم، من المتوقع أن يظهر دور التيار الصوفي بشكل أوضح خلال الأيام القليلة المقبلة، خاصة أن الخطاب الصوفي يدعم بشكل دائم الاستقرار ويطالب بإحلال الأمن والسلام، ويحذر دومًا من أية مخاطر لانزلاق البلاد في الفوضى، ولكن الظاهر إلى العلن أن التيار الصوفي يدعم بشكل كامل القوات المسلحة السودانية، ويرفض أي محاولات لميليشيا الدعم السريع لإدخال البلاد في دوامة من الإضرابات السياسية لا تنتهي أبدًا.