جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى فرنسا يومي 26 و27 يناير 2023، بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لتعزيز روابط العراق الخارجية، وتنويع شراكاته مع القوى الكبرى، لا سيما أن هذا الهدف الاستراتيجي بدأ مع حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، لإبعاد العراق عن سياسة المحاور التي أسهمت في جعل أراضيه ساحة للتنافس الدولي والإقليمي، وتصفية الحسابات ما بين القوى الكبرى والإقليمية وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.
دوافع متنوعة:
تنوعت دوافع زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى فرنسا، التي يمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(*) تعزيز الشراكة الاستراتيجية:شهدت الزيارة توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين العراق وفرنسا، الذي اشتمل على أكثر من 50 مادة للتعاون والتبادل في مجالات متعددة. ووفقًا للبيان الإعلامي لمكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، فإن الزيارة تضمنت توقيع عدد من مذكرات التفاهم في المجالات الاقتصادية والأمنية ومكافحة الإرهاب والتطرف والتبادل الثقافي، فضلًا عن محاور أخرى تتعلق بإدارة الأزمات ومكافحة الجريمة الاقتصادية والجريمة المنظمة، وحماية البيئة وتعزيز حقوق الإنسان والتعليم.
(*) تنويع روابط العراق الخارجية: ترتبط زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى فرنسا في أحد جوانبها بتنويع علاقات العراق الخارجية، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني خلال حواره مع إحدى القنوات الإعلامية العراقية بأن الحكومة العراقية أكثر قناعة برؤيتها لتطوير علاقات العراق الإقليمية والدولية على أسس التعاون والتوازن والابتعاد عن سياسة المحاور، واعتماد سياسة الشراكة مع العديد من دول العالم وفي مقدمتها فرنسا، لا سيما أن الحرص على تطوير العلاقات الثنائية والبناء على أسسها يأتي كاستجابة للشعور المشترك بين بغداد وباريس بالأهمية الاستراتيجية للتعاون بين البلدين.
(*) تعزيز جهود مكافحة الإرهاب: نجحت الجهود العراقية بمساعدة التحالف الدولي في مواجهة تنظيم داعش، وذلك بالإعلان أن أراضي العراق في 2017 خالية من أي سيطرة لمقاتلي التنظيم. وهي الجهود التي تحتاج إلى استمرار دعمها من القوى الكبرى حتى لا يعود التنظيم مجددًا لممارسة أنشطته الإرهابية. ووفقًا لرئيس الوزراء العراقي خلال زيارته إلى باريس، فإن فرنسا وقفت إلى جانب العراق في مواجهة مخاطر الإرهاب للدفاع عن نفسه والمنطقة والعالم، مشيرًا إلى أن فرنسا كانت سبّاقة لتقديم العون والمشاركة في استعادة العراق أراضيه، وخصوصًا في حرب تحرير الموصل، فضلًا عن التعاون المشترك في جوانب التسليح والتدريب والتبادل المعلوماتي. كما أُعلن أن فرنسا من المقرر أن تساعد في ترميم وإصلاح المناطق العراقية التي هاجمها تنظيم داعش الإرهابي
(*) دعم أمن الطاقة الأوروبي: أكد تقرير البنك الدولي والمعنون بالمرصد الاقتصادي للعراق والصادر في نوفمبر 2022، أن الصادرات النفطية العراقية، حققت عائدات غير مسبوقة للحكومة العراقية ودفعت احتياطات النقد الأجنبي إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عقدين. ووفقًا لبيان صادر من وزارة النفط العراقية فقد حقق العراق أكثر من 115 مليار دولار من تصدير النفط الخام لعام 2022 بكمية مليار و209 ملايين برميل. لذلك تعتقد بعض التقديرات الاقتصادية أن يشكل النفط العراقي بديلًا للنفط الروسي لإمداد الدول الأوروبية التي تعاني من نقص حاد في إمدادات الطاقة في ظل وجود شركات بترول عالمية تتجه بالنفط العراقي نحو السوق الأوروبية. وتماشيًا مع ذلك التوجه فقد أبدى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني التزامهما بتسهيل العقبات التي تواجه تنفيذ مشروعات متنوعة لشركة توتال إنرجي بالعراق التي وقّعت مع العراق عقدًا بقيمة عشرة مليارات دولار عام 2021 في مجالات النفط والغاز والطاقة المتجددة.
تحديات ماثلة:
على الرغم من تنوع دوافع الزيارة، إلا أن المشهد العراقي يواجه العديد من التحديات المرتبطة بتفاعلات القوى الكبرى على مستويين: الأول تنموي يرتبط بالمشكلات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد العراقي، ومنها ما يتعلق بمشروعات البنية التحتية، والبطالة، والتغيرات المناخية والتضخم، بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، فضلًا عن القيود التي فرضها البنك الفيدرالي الأمريكي أخيرًا كضوابط صارمة على المعاملات الدولارية الدولية التي تجريها بنوك تجارية عراقية، بهدف إيقاف التحويلات غير المشروعة للدولارات إلى إيران التي تخضع لعقوبات اقتصادية أمريكية، فبموجب تلك القيود يجب أن تستخدم المصارف العراقية منصة إلكترونية، للإفصاح عن تلك المعاملات. وهو ما انتقده رئيس الوزراء العراقي خلال حوار له مع شبكة "فرانس 24" على هامش زيارته لفرنسا بأن هناك علامات استفهام بأن هذه المعايير يراد تطبيقها في هذا الوقت أو في هذه المرحلة الزمنية من حكومة عمرها 3 أشهر، في حين أنها كانت غائبة لسنوات في الحكومات السابقة.
أما المستوى الثاني فإنه يرتبط بمدى قدرة فرنسا على تحقيق التوازن في الصراع ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران الذي يدار على أراضي العراق، ويتم توظيفه في صراع لأجنحة داخل المشهد العراقي، فقد أدت تلك المواجهات إلى انتشار الإرهاب والفكر المتطرف وكسر قوة العراق بما أثقل كاهل العراقيين وارتدت آثاره على كل دول الإقليم. وقد سعت الدولة العراقية لتجاوز ذلك من خلال السعي لاستعادة دور مؤسسات الدولة، والقضاء على مشروعات الإرهاب وتحقيق أمن واستقرار وسيادة العراق وصون وحدة نسيجه الوطني. وهو الأمر الذي يتطلب من القوى الإقليمية والدولية ضرورة احترام مبادئ القانون الدولي في حُسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم الاعتداء والاحترام المتبادل لسيادة الدول، والتوقف عن سياسة الأمر الواقع. من هنا يمكن أن يسهم عقد مؤتمري بغداد للتعاون والشراكة بدعم فعّال من فرنسا وبمشاركة رئيسها إيمانويل ماكرون، المؤتمر الأول عُقد في بغداد أغسطس 2021 والثاني في ديسمبر 2022 بالعاصمة الأردنية عمّان، وبمشاركة عدد من الدول العربية في مقدمتهم: مصر، والإمارات، السعودية وعمان والبحرين، وتفعيل توصياتهما في تحييد التنافس الدولي والإقليمي على العراق، ودعم التنمية وادماجه في محيطه الإقليمي، لإقامة شراكة وتعاون وتكامل اقتصادي بين العراق ودول الجوار والدول الصديقة. كما يتوقع أن تصبح آلية التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن التي انطلقت من القاهرة في مارس 2019 إطارًا مؤسسيًا عربيًا، لتعزيز عودة العراق إلى محيطه العربي، بما يحول دون تركه للتجاذبات الإقليمية والدولية.
مجمل القول، إن استنكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للاعتداءات التي تنتهك سيادة العراق ووحدة أراضيه أيًا كان مصدرها، خلال الزيارة يعكس الرغبة المشتركة في استعادة العراق لقوته وتحقيق أمنه واستقرار وحفظ سيادته من التدخلات الخارجية، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال توحيد الجبهة العراقية الداخلية وتعزيز تماسكها ومناعتها، وذلك من خلال إعلاء أسس المواطنة على ما سواها من تصنيفات عرقية أو مذهبية أو مناطقية. وهو الأمر الذي سيمكّن العراق الغني بموارده من تجاوز التنافس الدولي والإقليمي على مقدراته وإقامة شراكات استراتيجية على أسس من الندية والتعاون البناء.