يدخل اليسار الفرنسي في معركة داخلية حادة قد تحدد مصيره أمام صعود أقصى اليمين، إذ يتصارع جان لوك ميلنشون ورافائيل جلوكسمان على قيادة المعسكر اليساري في الانتخابات الرئاسية المقررة ربيع 2027، في مواجهة حاسمة مع مرشح التجمع الوطني المنتمي إلى أقصى اليمين جوردان بارديلا أو مارين لوبان.
وجهان لعملة واحدة
يجسد المرشحان المحتملان التناقض الحاد داخل اليسار الفرنسي المنقسم، إذ إن ميلنشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" البالغ 74 عامًا، يمثل الجيل القديم من اليسار المتشدد، وخاض السباق الرئاسي ثلاث مرات، وكاد يبلغ الجولة الحاسمة عام 2022 ببرنامج يدعو لرفع الحد الأدنى للأجور وتخفيض سن التقاعد إلى 60 عامًا والانسحاب من حلف الناتو.
أما جلوكسمان، عضو البرلمان الأوروبي البالغ 46 عامًا، فيمثل وجه اليسار المعتدل المؤيد للناتو والداعم لتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية، ويطالب بتخفيضات بمليارات اليورو لضبط الموازنة العامة وإصلاح نظام التقاعد المثير للجدل.
وكشفت صحيفة "بوليتيكو" أن هذا الانقسام الأيديولوجي تحول إلى حرب كلامية شرسة، إذ وصف ميلنشون منافسه في مدونته الشخصية بـ"المحرّض الحربي المتعصب" و"المدلل الإعلامي الفارغ"، فيما رد جلوكسمان متهمًا زعيم حزب "فرنسا الأبية" بأنه "وطني زائف يفضل رواية الكرملين"، واصفًا المعركة بينهما بأنها صراع على "رؤية الديمقراطية" في مواجهة من يتعاطف مع الأنظمة الاستبدادية في موسكو وبكين.
أرقام تنذر بكارثة تاريخية
رغم أن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى احتمالية وصول مرشح يساري للجولة الثانية، إلا أن الأرقام تحمل تحذيرًا قاتمًا، إذ يقول إيروان ليستروهان، مدير الأبحاث في معهد "أودوكسا" للاستطلاعات، إن "هناك فرصة قوية لوصول مرشح يساري للجولة الحاسمة"، إلا أن استطلاعًا نشره المعهد الأسبوع الماضي كشف أن جلوكسمان سيخسر أمام بارديلا بنسبة 42% مقابل 58%، بينما ستكون هزيمة ميلنشون ساحقة بنسبة 26% مقابل 74%.
هذه الأرقام تضع اليسار الفرنسي أمام احتمالية أن يصبح أحدهما أول مرشح رئاسي في التاريخ الفرنسي الحديث يخسر أمام أقصى اليمين، خاصة مع توقعات بإقصاء جميع مرشحي ائتلاف يمين الوسط الحاكم من الجولة الأولى، باستثناء إدوار فيليب، رئيس الوزراء الأول للرئيس إيمانويل ماكرون، الذي تتراجع شعبيته باستمرار.
استراتيجيتان متضادتان ومخاوف متصاعدة
يتبنى كل مرشح استراتيجية مختلفة تمامًا لتحقيق النصر. يراهن جلوكسمان على استعادة الناخبين المعتدلين والاشتراكيين السابقين الذين انضموا لحركة ماكرون الوسطية عام 2017، وأظهر استطلاع لمعهد "إبسوس" أنه نجح في استقطاب 17% ممن صوتوا لماكرون سابقًا عندما قاد قائمة مشتركة مع الحزب الاشتراكي في الانتخابات الأوروبية 2024، محرزًا مركزًا ثالثًا مقنعًا.
في المقابل، يعتمد ميلنشون على استراتيجية "السلحفاة الانتخابية" كما يحب أن يصف نفسه، محتفظًا بتماثيل السلاحف في مكتبه، مراهنًا على تعبئة المناطق الحضرية الشعبية منخفضة المشاركة، حيث يحظى بدعم ساحق رغم أنه يحمل أعلى نسبة رفض بين السياسيين الفرنسيين، متجاوزًا حتى ماكرون، بسبب اتهامات باستخدام خطاب معادٍ للسامية في سياق موقفه المؤيد لفلسطين وتبنيه آراء متطرفة.
إلا أن نقاط الضعف تحاصر الطرفين، إذ يحذر ليستروهان من أن "صورة ميلنشون كمثير للشقاق قد تطيح به"، بينما "تكمن نقطة ضعف جلوكسمان في كونه مجهولًا نسبيًا، ولا نعرف بعد قدرته على خوض الحملات والترويج للأفكار، وخاصة فرض نفسه أمام المعارضين".
وتعززت هذه المخاوف بعد ظهوره في مناظرة مع مرشح أقصى اليمين السابق إريك زيمور الشهر الماضي، حيث اعتُبِر أداؤه مخيبًا للآمال، واعترف هو نفسه بأنه "كان يمكنه الأداء بشكل أفضل".