أعربت الصين، الأحد 5 فبراير 2023، عن استيائها الشديد لاستخدام الولايات المتحدة القوة في إسقاط منطادها الذي اعتبرته مخصصًا للاستخدام المدني، وأكدت بكين أن رد الفعل الأمريكي مبالغ فيه، ويعد انتهاكًا خطيرًا للممارسات الدولية، فيما ألمح تان كه في، المتحدث باسم وزارة الدفاع الوطني الصينية، إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع مواقف مماثلة.
يذكر أن المنطاد الصيني المستهدف من قبل واشنطن حلق فوق الأراضي الأمريكية قبل استهدافه بصاروخ "سايد ويند" بمقاتلة إف 22 رابتور، قبل سقوطه فوق المحيط الأطلسي قبالة سواحل كارولينا الجنوبية، بل إن إسقاطه من قبل أمريكا يمكن أن يهدد استقرار العلاقات الأمريكية الصينية، خاصة بعدما أرجأ وزير الخارجية الأمريكي زيارة مقررة لبكين يومي 5 و6 فبراير 2023، وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل أبعاد الأزمة وانعكاسها على العلاقات الأمريكية الصينية.
أبعاد الأزمة:
فيما كان العالم يتطلع لكسر هوة الخلافات الأمريكية الصينية ووضع قواعد عادلة للتنافس الاستراتيجي، بعدما دشنت إدارة ترامب حقبة الحرب التجارية بين القوتين العظميين، إلا أن إدارة بايدن اتبعت نهجًا أكثر شمولية في التعامل مع بكين، يمكن تحديد ملامحه على النحو التالي:
(*) البعد الدبلوماسي: أعلنت الخارجية الأمريكية أن الوزير أنتوني بلينكن، أبلغ مدير مكتب الشئون الخارجية باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ووزير الخارجية السابق وانج يي، 3 فبراير الجاري، إرجاء الزيارة ردًا على انتهاك السيادة الأمريكية وخرق القانون الدولي. وازدادت الأزمة الدبلوماسية بين بكين وواشنطن على خلفية إسقاط الأخيرة ما قالت إنه منطاد تجسس صيني، إلا أن مقدمات الأزمة بدأت في 18 مارس 2021، في أول لقاء رفيع بين مسؤولي البلدين منذ انتخاب جو بايدن، في ولاية ألاسكا، الذي شهد احتدامًا وسجالًا بين مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن من جهة، وعضو المكتب السياسي "حينها" يانج جيتشي ووزير الخارجية "حينها" وانج يي، حينما عبر الجانب الأمريكي عن "مخاوفه العميقة" من السلوك المهدد للنظام العالمي القائم على القواعد مع إيلاء اهتمام بقضايا تايوان وهونج كونج والأويجور، فضلًا عن تهديد بكين الإلكتروني للولايات المتحدة والإكراه الاقتصادي لحلفائها، حسب تصريحات بلينكن.
وعبّرت الصين عن رفضها لتدخل الولايات المتحدة في شئونها الداخلية خلال لقاء ألاسكا، وآخرها في 30 يناير الماضي، حينما عبّرت متحدثة الخارجية ماو نينج، عن رفض بلادها لنهج واشنطن الساعي، للحفاظ على التواصل والتعاون بالتوازي مع التدخل في شئون بكين وممارسة سياسة الاحتواء تحت غطاء حماية المنافسة، (حسب صحيفة الشعب الصينية). وحمل تعيين سفير بكين لدى واشنطن تشين جانج، وزيرًا للخارجية الصينية، إشارة إيجابية لتحسين العلاقات الأمريكية الصينية وتفضيل الدبلوماسية على النهج الخشن في إدارة العلاقات، إلا أن حادثة المنطاد كشفت عن رسائل صينية يمكن استشفافها من تصريح ماو نينج، الذي عبر عن عدم ترحيب بلادها بزيارة بلينكن وعدم اكتراث بكين بالإعلان عنها.
كما سبقت الزيارات واللقاءات الأمريكية الصينية، خلال العامين الماضيين، إثارة المخاوف بشأن الصين لدى حلفاء أمريكا في منطقة المحيطين الهندي والهادي، إذ سبق لقاء ألاسكا، لقاء افتراضي بين وزراء خارجية أمريكا واليابان والهند وأستراليا، 18 فبراير 2021، وقمة افتراضية بين قادة الدول الأربع في أولى خطوات إدارة بايدن، لإحياء التحالف الأمني الرباعي "كواد"، ضمن جهود تقييد نفوذ الصين في منطقة المحيطين "الإندوباسيفيك.
(*) البعد السياسي والأيديولوجي: شكّل صعود الجمهوريين في مجلس النواب الأمريكي ضغطًا إضافيًا على إدارة بايدن في رسم علاقات الولايات المتحدة بالصين، من خلال السيطرة على لجنة لمراقبة خطوات الإدارة الأمريكية في إدارة التنافس مع بكين بعضوية 13 نائبًا جمهوريًا و7 نواب ديمقراطيين يغلب عليهم الأصول الآسيوية المتخوفة من نفوذ الصين، برئاسة النائب الجمهوري مايك جالاجار. وتمثل الأزمة الحالية أول اختبار لأجندة الجمهوريين لإحراج الرئيس بايدن وإثبات ضعف إدارته وعدم فاعلية سياساته تجاه بكين، إذ أعلن رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب مايكل مكول، السبت 4 فبراير 2023، مساءلة الإدارة على إظهار الضعف والتردد في مواجهة المنطاد الصيني.
(*) البعد العسكري التقني: كشفت صحيفة نيويورك تايمز، عن تقرير سري عُرض على الكونجرس الأمريكي قبيل شهر من حادثة المنطاد الصيني، حول احتمالات استخدام تقنيات فائقة التطور للتجسس والمراقبة الجوية على الولايات المتحدة من قبل منافسيها الاستراتيجيين وعلى رأسهم الصين، باستخدام المناطيد والطائرات المسيّرة (المروحية/كوادكور)، ورصد الجيش الأمريكي تلك الأجسام الطائرة بالتحديد على قاعدة فالون البحرية الجوية في نيفادا، وقاعدة إيواكوني في اليابان. ويثير امتلاك الصين قدرات تقنية عسكرية غير مكتشفة مخاوف الولايات المتحدة من تفوق بكين في أي صراع مستقبلي أو قدرتها على تهديد المصالح والأصول العسكرية والمدنية الأمريكية عبر البحار وفي المجال السيبراني أو في الفضاء، بعدما كشفت في 2021 عن امتلاكها صواريخ فرط صوتية "أسرع من الصوت".
وتتمثل الاستراتيجية الأمريكية في هذا الإطار بتضييق الخناق على صناعة الدفاع الصينية والإبطاء من وتيرة تطور جيش التحرير الشعبي الصيني عبر التحكم في إمدادات الرقائق الإلكترونية وحظر تصدير معدات تصنيعها لبكين، بالاتفاق مع هولندا واليابان (ومحاولة ضم كوريا الجنوبية لتحالف Chip 4 المقترح)، والتصدي لمحاولات ضم تايوان إلى البر الصيني الرئيسي. كما ضمنت الهجمات المحتملة في الفضاء الخارجي في الاتفاقية الأمنية المشتركة مع اليابان، إذ أكد وزير الخارجية الأمريكي، 11 يناير الماضي، أن الهجمات في الفضاء أو من خلاله "على مصالح أي من البلدين" تستدعي تفعيل البند الخامس من الاتفاقية برد واشنطن وطوكيو على التهديد المشترك.
(*) البعد الاستراتيجي: أعادت الولايات المتحدة رسم خارطة تحالفاتها بمنطقة المحيطين في مواجهة نفوذ الصين بالدرجة الأولى، واحتلت المنطقة الأولوية الأولى في توجهات الإدارة الأمريكية الحالية منذ توليها، إذ عززت الحوار السياسي الأمني مع كوريا الجنوبية واليابان بصيغة 2+2 (وزراء الخارجية والدفاع)، وكثفت تدريباتها المشتركة ووجودها العسكري في المنطقة. كما سبقت الزيارة المقررة في فبراير الجاري، لقاءات مكثفة لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في كوريا الجنوبية والفلبين، لتعلن وزارتا دفاع أمريكا والفلبين في 2 فبراير، الاتفاق على استخدام 4 قواعد عسكرية بالدولة الواقعة في بحر جنوب الصين جنوب غربي جزيرة تايوان (بجانب 5 قواعد خاضعة لاتفاقية التعاون الدفاعي المعزز في 2014). كما تطور الولايات المتحدة من حضور قوتها العسكرية الضاربة في اليابان بنشر مقاتلات إف 22 رابتور، التي نقلت عددًا منها في يناير الماضي، إلى قاعدة جوية في كادينا أقصى جنوب جزيرة أوكيناوا المحاذية لجزيرة تايوان من جهة الشرق، فضلًا عن تطوير قدراتها البحرية بنشر غواصات صاروخية في محيط الجزيرة الاستراتيجية.
ماذا بعد؟
يتضح من العرض السابق لمقدمات أزمة المنطاد أن الصين تواجه توغلًا متزايدًا للولايات المتحدة الأمريكية وتعزيز قدرات حلفائها في المجالين الجوي والبحري في مواجهة هواجس الهيمنة الصينية، بنشر أحدث ما توصلت إليه الصناعات الدفاعية الأمريكية، في إطار دعم قدراتها على الاستجابة السريعة لأي تحرك عسكري صيني من شأنه تغيير الوضع في تايوان أو فقدان السيطرة على مضيقها، الحيوي للتجارة العالمية، لصالح الصين.
وعلى الرغم من تضارب التصريحات بين الجانبين الأمريكي والصيني حول طبيعة المنطاد ومهامه، إلا أنه يمثل أحدث المواجهات بين الجانبين (على الصعيد التقني على الأقل)، وسينعكس في مزيد من عدم الثقة في مجمل العلاقات الثنائية ويغذي حالة الصراع في منطقة المحيطين وصولًا للبر الأمريكي، إذ رُصد المنطاد الصيني لأول مرة في الأجواء الأمريكية، 28 يناير، مرورًا بكندا، وعاد في 2 فبراير، فوق إداهو مرورًا بقاعدة مالمستروم الجوية التي تحوي صواريخ باليستية عابرة للقارات قادرة على حمل رؤوس نووية، قبل يومين من إسقاطه في 4 فبراير 2023، قبالة الساحل الشرقي، ويؤكد ذلك انتقاء الولايات المتحدة أحدث وأقوى مقاتلاتها الجوية لإسقاط الجسم الطائر غير المأهول أو المسلح.
وإجمالًا؛ التطورات تنذر بتنافس محفوف بالمخاطر في منطقة المحيطين، وتوجه لبناء استراتيجية كبرى جديدة تعمد فيها الصين على جمع الحلفاء على قاعدة تقاسم المنافع وتوسيع أطر الشراكة مع القوى المتوسطة والصغيرة. وفيما يحد من احتمالات التصعيد الرغبة الصينية في تغيير توازن القوى الدولي دون صدام مع الولايات المتحدة، طالما احتفظت بخطوط فاصلة مع واشنطن عبر تعزيز التعاون الاستراتيجي مع روسيا وترميم العلاقات مع شركائها الإقليميين، إلا أن تزايد الأنشطة العسكرية الصينية والمخاوف من تنسيقها مع كل من موسكو وبيونج يانج تبقي احتمالات التصعيد قائمة.