في قلب المعاناة والدمار الذي يعيشه السودان، تبرز الفنانة السودانية تسابيح الأمين أو كما تُعرف فنيًا بـ"بيحا" كنموذج للصمود والإصرار. رغم الظروف القاسية التي فرضتها الحرب واللجوء، لم تمنعها التحديات من الاستمرار في رحلتها الفنية، وبعد فترة من الرحيل القسري، اختارت العودة إلى وطنها لتواجه الواقع المرير بالأمل والموسيقى، وتواصل رسالتها التي لطالما آمنت بها.
في حوار خاص مع موقع "القاهرة الإخبارية"، تكشف تسابيح عن لحظة اندلاع الحرب، التحديات التي واجهتها في العودة إلى السودان، وكيف استطاعت أن تخلق مساحة من الإبداع وسط الركام، متمسكةً بالفن كأداة مقاومة وأمل في زمن القسوة.
حدثينا عن بداياتك مع الفن؟
نشأت في السودان، وبدأت رحلتي الفنية عام 2012 ضمن كورال جامعة الرباط الوطني. من هناك بدأت خطواتي الأولى في عالم الغناء، وواصلت تجربتي بالغناء الفردي والجماعي، مع فرق مثل "ساورا" وكورال "بيت العود". شيئًا فشيئًا، أسست مشروعي الفني الخاص، وشاركت في مهرجانات محلية ودولية. الفن بالنسبة لي ليس مجرد مهنة، بل حياة وهوية ورسالة.
..وما الذي يعنيه لك؟
قبل اندلاع الحرب، كان الفن بالنسبة لي وسيلة لاكتشاف ذاتي، والصراخ بصوتي الحقيقي. كان علاجًا للروح، ومحاولة ترميم الشروخ النفسية والمجتمعية. اليوم، أصبح الفن أكثر من ذلك. هو وسيلتنا للبقاء، ومداوة الجروح العميقة التي خلفتها الحرب. أصبح الغناء فعل مقاومة وفعل حب في زمن القسوة.
ما آثار الحرب عليك كفنانة؟
كنت في الخرطوم حين اندلعت الحرب، وكانت لحظة لا تُنسى، كأن الحياة توقفت فجأة، أو كأن أحدًا اقتلعك من جذورك. قرار الرحيل لم يكن سهلًا، بل كان أشبه بخلع القلب من مكانه. لكن في لحظة ما أدركت أن عليَّ الرحيل لأحافظ على حياتي، ورحلت بعد 9 أشهر من الصراع الداخلي والانتظار.
أخذت صوتي وذاكرتي، وقلبي الممتلئ بأصوات ووجوه أحبتي. لكن تركت أشياءً لا تعوض أهلي، أصدقائي، بيتي، وكل ما كنت أبنيه في الوطن. تركت أحلامي التي لطالما ناضلت لتحقيقها على تراب بلدي.. أحلامي الشخصية والعامة.
ما الذي دفعكِ إلى اتخاذ قرار العودة رغم المخاطر؟
الأشواق كانت أقوى من كل الحسابات العقلانية. كان قلبي مشدودًا للسودان دائمًا. أحسست بأن مكاني الطبيعي وسط أهلي، وسط شعبي. صحيح أن العودة لم تكن سهلة، لكن الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن ونفسي جعلني أختارها، شعرت بالخوف، وكل خطوة كانت محاطة بالقلق والتفكير. لكن الشوق انتصر. إحساسي العميق بالانتماء كان أكبر من كل شيء.
ما أقسى لحظة عشتيها عند عودتك إلى السودان؟
من أصعب اللحظات أنني لم أجد أصدقائي الموسيقيين.. كنا نعمل معًا منذ أكثر من سبع سنوات، وحققنا تناغمًا عميقًا، وكأننا نغني بروح واحدة. عند عودتي، لم أجدهم، وكان عليَّ أن أبدأ من جديد. لكن حتى من البعد، كانوا يساندونني بالدعم والمشورة.
برأيك.. ما دور الفن في ظل الحرب؟
الفن صوت الحياة في زمن الموت. هو الذي يوحد الناس وسط الانقسام، ويواسيهم وسط الألم، ويزرع فيهم الأمل حين يغيب.
ما أبرز التحديات التي واجهتكِ بعد العودة؟
أول بروفة كانت بسيطة جدًا ومليئة بالتحديات. كل لحظة كانت تظهر فيها مشكلة من نقص المعدات، إلى انقطاع الكهرباء. لكن رغم كل ذلك، كانت لحظة مفعمة بالمشاعر. مجرد أننا نجتمع لنغني وسط هذا الدمار كان إعلانًا عن أننا ما زلنا أحياءً.
صعوبات أول حفل كانت كثيرة. من الوضع الأمني والمعيشي، إلى غياب المعدات وفرق العمل. لكن التحدي الأكبر كان معنويًا.. كيف أغني للناس وهم غارقون في الحزن؟، كيف أطلب منهم الفرح وهم بالكاد يعيشون؟، لكني قررت أن أغني.. لعل الغناء يشعل شمعة في الظلام.
كيف استقبلك الجمهور بعد العودة؟
دافئ جدًا. شعرت أنهم كانوا في انتظار لحظة فرح.. لحظة غناء. شعرت بالامتنان في نظراتهم، وفي كلماتهم. قالوا لي: "وجودك هنا يجعلنا نشعر أنه ما زال هناك أمل".
ما الأغاني التي شعرتِ أنها لامست مشاعر الناس أكثر؟
الأغاني السودانية القديمة، خصوصًا أغنية "مع الطيور" للفنان الراحل مصطفى سيد أحمد. أظن أن الأغنية لامستهم لأنها تشبه واقعنا تمامًا، الطيور التي لا تملك جواز سفر ولا تعرف خريطة، لكنها تهاجر وتحلق رغم ذلك.
ما طموحاتك الفنية القادمة؟
طموحي أن أصل بالغناء السوداني للعالم، وأن أقدمه بشكل حديث يعكس عمقه وتاريخه. أحلم أن أظل قريبة من وطني دائمًا، سواء من داخله أو من خارجه. لكن لا شك أن وجودي في السودان يمنحني معنى مختلفًا، وشحنة لا يمكن تعويضها.
لو أتيحت لكِ فرصة توجيه رسالة واحدة للعالم من قلب أم درمان، ماذا تقولين؟
“لا تنسوا السودان. خلف الأخبار هناك بشر حقيقيون يحلمون بالحياة كما تحلمون بها تمامًا. نحن لسنا أرقامًا في نشرات الأخبار.. كل رقم قصة، كل رقم حياة كاملة".