يرجح المراقبون أن وضع الاقتصاد التركي الراهن، سيتحكم في مخرجات الانتخابات المقبلة في 2023، ففي الوقت الذي تستعد فيه الأحزاب للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2023، تحاصر أردوغان وحكومته مخاطر السياسة الاقتصادية المتبعة، التي قد تُحقق المزيد من الأضرار والسلبيات بالاقتصاد، بدلاً من العمل على حلحلة المشكلات والتخفيف من وطئتها، إذ تواجه تركيا في الوقت الراهن أزمة عُملة لها تداعيات متعددة، فقد تراجعت الليرة التركية بنسبة 29 في المئة أمام الدولار هذا العام، بعد أن خسرت 44 في المئة العام الماضي، وعلى ما سبق، يبقى السؤال: ما الأبعاد المحيطة بأزمة العُملة في تركيا، وما تداعياتها المستقبلية؟
أبعاد الأزمة:
يحيط بأزمة الليرة التركية العديد من الأبعاد شديدة الخطورة على الاقتصاد التركي، يظهر أبرزها فيما يلي:
(*) انهيار تاريخي لليرة: في سبتمبر 2021، كانت قيمة الدولار الأمريكي الواحد تساوي نحو 8 ليرات تركية، لكن بحلول أكتوبر 2022، ارتفعت هذه القيمة لنحو 18.6 ليرات تركية، وهو أدنى سعر بتاريخها؛ إذ قد تجاوزت الهبوط الحاصل في شهر ديسمبر من العام الماضي، وقت هبوطها إلى 18.5 ليرة لكل دولار، في إشارة إلى الانهيار التاريخي التي تعانيه الليرة التركية، فبالرغم من الفوائد التي تحققها تركيا من جراء هذا الانهيار في العملة، التي فصلها فراس شعبو، أستاذ المالية بجامعة باشاك شهير، إسطنبول، في زيادة قيمة الصادرات هذا العام إلى أكثر من 300 مليار دولار، وزيادة تدفق السياح، لكن ذلك لا يعني ترك الليرة تتهاوى، لأن آثار ذلك قد لا يُمكن السيطرة عليها.
(*) معدلات تضخم قياسية: بالرغم من إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الحرب على التضخم، متوقعًا تراجع مؤشر أسعار المستهلكين في تركيا إلى 20 في المئة، في فبراير 2023، وأن تلك الحرب يستحيل إعلان إنهاءها لصالح أردوغان وحزبه، لا سيما وسط الارتفاع المطرد للتضخم؛ فقد أفاد معهد الإحصاء التركي بأن التضخم السنوي في تركيا، بلغ 83.45 في المئة، في سبتمبر 2022، وهو أعلى مستوى له منذ 24 عامًا، فذلك المعدل أعلى بنحو 17 مرة من هدف البنك البالغ 5 في المئة، فضلًا عن غياب أي مؤشرات عن تحسنه؛ حيث إن المعدل الحقيقي من المرجح أن يكون أعلى من ذلك، فقد قدرت المجموعة التركية المستقلة لأبحاث التضخم (ENAG)؛ الواقع الحقيقي لمعدل التضخم السنوي لمؤشر أسعار المستهلكين عند 176.0 في المئة، فيما يُقدره خبراء مستقلون عند 186.27 في المئة.
(*) إصرار على خفض الفائدة: وفقًا للسياسات الاقتصادية غير التقليدية في تركيا؛ والتي تُعرف باسم "أردوغان وميكس"، يرى أردوغان أنها تجربة غير تقليدية، تقوم على فكرة أن خفض أسعار الفائدة سيؤدي لخفض التضخم، لكن على عكس ما تصور الرئيس التركي، فقد أدت سياسته التدخلية ونظريته الاقتصادية المنافية للنظريات الاقتصادية التقليدية، إلى تدهور قيمة العملة ومعدل التضخم إلى مستويات خطيرة، إذ أعرب الكثير من الاقتصاديين الأتراك عن استيائهم، في 21 أكتوبر 2022، عقب قرار البنك المركزي التركي، بتخفيض جديد لأسعار الفائدة، مؤكدين أن ما يُحدث في البنك المركزي، هراءً وليس له مثيل في العالم.
(*)تدخل البنك المركزي التركي: لا يزال البنك المركزي التركي مستمرًا في التدخل من أجل دعم الليرة مقابل الدولار الأميركي، لكن بدون جدوى، فقد أعلن البنك المركزي التركي، قبيل القرار الأخير لخفض أسعار الفائدة، إجراءات جديدة لدعم الودائع بالليرة، عن طريق رفع نسبة السندات التي يتعين على البنوك حيازتها لودائع النقد الأجنبي ومُطالبة مَن تقل ودائعهم بالليرة عن 50 في المئة، بحيازة المزيد من السندات، بدءًا من عام 2023، كما لم يستبعد الاقتصادي التركي، خليل أوزون، تدخل المركزي التركي "مباشرة بالسوق" عبر طرح كتل دولارية لتحسين سعر صرف الليرة، خاصة وأنه قد سبق له التدخل في عملية العرض والطلب العام الماضي؛ من خلال قرار الإيداع المحمي بالليرة، بعد أن تراجع سعر العملة التركية.
تداعيات غاية في الخطورة:
من المرجح أن تؤدي الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، وعنوانها "تهاوي تاريخي للعملة والتضخم"، إلى تداعيات مستقبلية غاية في الخطورة، أبرزها ما يلي:
(*) تفاقم الأزمة الاقتصادية: من المرجح وسط استمرار البنك المركزي التركي في تخفيض أسعار الفائدة، أن تتفاقم أزمة العملة التركية، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، وخروجها عن السيطرة، لا سيما وأنه من المتوقع، وفقًا لوحدة الاستخبارات الاقتصادية (EIU) التابعة لمجلة الإيكونوميست البريطانية، في 27 أكتوبر 2022، أن تزيد تركيا من الإنفاق في ميزانية عام 2023 قبيل الانتخابات، كما تتوقع وكالة "بلومبرج" الأمريكية، أن تركيا قد لا يمكنها تحمُل مزيدًا من التداعيات السلبية لأزمة العُملة، في إشارة لبلوغ الأزمة الاقتصادية حدود الكارثة الاقتصادية. فيما رفع محافظ البنك المركزي التركي، في 27 أكتوبر 2022، توقعات التضخم لنهاية العام من 60.4 في المئة إلى 65.2 في المئة، في اعتراف منه بالفشل في كبح الأسعار، كما حذرت بعض بنوك الاستثمار العالمية، منها بنكي "جي بي مورجان"و"جولدمان ساكس"، من أن قوى الركود العالمي وتأثيرها في السلع ووتيرة انخفاض الليرة، ستكون ضمن العوامل الرئيسية التي ستسهم في تهاوي الاقتصاد التركي بصورة كبيرة.
(*) تأجج الشارع: من المرجح أن تدفع أزمة الليرة التركية بالأتراك إلى الاحتجاجات ضد أردوغان وسياساته، فقد تراجعت شعبيته وحزبه في استطلاعات الرأي على خلفية تدهور الاقتصاد، لا سيما وأن بعض المحللين يعتقدون بأن استمرار أزمة العملة في تركيا قد يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة والفقر. ولعل ذلك، يفسر زيادة الحكومة التركية للحد الأدنى للأجور مرتين هذا العام، جاءت الأولى مطلع العام الجاري بنسبة 50 في المئة؛ ليصل الحد الأدنى للأجور إلى 4250 ليرة (228.71 دولار)، قبل أن تأتي الزيادة الثانية في شهر يوليو الماضي بنسبة 30 في المئة، ليصل الحد الأدنى للأجور بتركيا إلى 5500 ليرة تركية (295.98 دولار)، ومن المرتقب إعلان زيادة جديدة؛ ستكون أعلى من معدل التضخم، بحسب تصريحات نور الدين النبطي، وزير الخزانة والمالية التركية، في 8 أكتوبر 2022.
(*) احتمالات تبكير الانتخابات: على الأرجح لن تترك المعارضة التركية تلك الأزمة تمر مرور الكرام؛ فعلى الأرجح أن تستغل المعارضة التركية، احتقان الشارع التركي جراء التداعيات السلبية لأزمة العملة، في التصعيد والضغط على أردوغان من أجل تبكير موعد الانتخابات؛ حيث ترى بعض استطلاعات الرأي أن حال قدوم أردوغان على تلك الخطوة حاليًا، فستكون نهاية عهده بالسلطة التركية. قراءة الوضع الداخلي التركي، تشير إلى أن تحالف أحزاب المعارضة الذي شكل كتلة ضد حزب أردوغان الحاكم وحلفائه، الذي شهد صعودًا في استطلاعات الرأي الأخيرة، يطالب بإجراء انتخابات مبكرة، متهمين أردوغان بـ"الخيانة" لسوء إدارة الاقتصاد. فمنذ نهاية عام 2012 وحتى أكتوبر 2022، فقدت الليرة التركية أكثر من 80 في المئة من قيمتها، وهو أسوأ انخفاض في العالم النامي بعد البيزو الأرجنتيني، كما أنها في محاولتها الفاشلة لدعم الليرة، فتحت حكومة أردوغان الباب أمام استنفاد الأموال؛ إذ استنفدت أكثر من 128 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي للبلاد، وهذا من أكبر المآخذ التي تضغط بها المعارضة التركية عليه.
(*) استمرار سياسة التنازلات: قد يستمر أردوغان وحكومته، في ظل مساعيهم للسيطرة على الأزمة الاقتصادية، في سياسة تقديم التنازلات، تجاه المنافسين الإقليمين؛ إذ تعد سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار الإقليمي، إحدى الوسائل المحتملة للحصول على تمويل خارجي إضافي أو تحقيق مكاسب اقتصادية؛ لتحقيق هذه الغاية. وتعد أبرز معالم تلك السياسة، إصرار أردوغان وحكومته على استعادة العلاقات مع مصر ودول الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بهدف الحصول على دعم مالي من الآخيرتين، وإدراج الأولى لبلاده في منتدى غاز شرق المتوسط؛ التي قامت مصر في السابق باستبعاد تركيا منه.
(*) توتر مع الغرب: قد يتمخض عن الأزمة الاقتصادية الراهنة في تركيا، تصعيداً في حدة التوتر بين أنقرة والغرب، لا سيما مع استمرارها في العلاقات الجيدة مع روسيا، لتحقيق مكاسب ومصالح اقتصادية، وهو ما أثار مخاوف الحكومات الغربية من أنها تعمل كبوابة خلفية لموسكو للتهرب من العقوبات، خاصةً وسط دفاع أنقرة لعلاقاتها مع موسكو، التي كان أخرها في 25 أكتوبر 2022، عندما وصف وزير المالية التركي علاقات بلاده الاقتصادية مع روسيا بأنها "علاقات حسن جوار" حتى في وقت الأزمات.
(*) تحركات استباقية: قد يلجأ أردوغان للتحركات الاستباقية الوقائية؛ لمواجهة تفاقم الأزمة الاقتصادية في بلاده، ففي خضم الأزمة أعلن أردوغان في 13 سبتمبر2022، عن "أضخم مشروع للإسكان الاجتماعي" في تاريخ تركيا؛ كما تصفه الحكومة، في خطوة تتوقع الأخيرة أن تسهم في خفض التضخم، لا سيما في قطاع العقارات والمساكن. كما يرى بعض المحللون، أن هذا المشروع قد يشكل حركة وقائية فعالة لمواجهة الأزمة، معتبرين أنه "خياراً صائباً" في هذا التوقيت، قد تكون له آثار إيجابية في تخفيف الضغوط التضخمية طويلة الأجل، لما يتضمنه من تأثير على زيادة المدخرات، وزيادة المعروض من المساكن وتقليل الضغط على السكن وأسعار الإيجار.
وختاماً، في ضوء العرض السابق، فإن لأزمة العملة التركية تأثير كبير على احتمالات بقاء أردوغان في السلطة؛ لما لها من تداعيات سلبية غاية في الخطورة، لذلك من المرجح أن يعكف أردوغان وحكومته، خلال الفترة المقبلة، على العمل من أجل تنشيط الشعبوية، واستعادة التأييد الشارع التركي له ولحزبه، من أجل الوصول إلى أغلبية الأصوات على الأقل لشغل مقعد الرئاسة في عام 2023، وعلى الأرجح ستكون تحركاتهم في اتجاه تحسين الاقتصاد، فإذا لم توقف الحكومة سياساتها الحالية، فستكون النتيجة توقفاً مفاجئاً، وانخفاضاً حاداً في الإنتاج، وأزمة ائتمانية لن تكون في صالح بقاؤهم في السلطة.