الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ماذا تحمل زيارة رئيس مالي أسيمي جويتا إلى موسكو؟

  • مشاركة :
post-title
رئيس مالي أسيمي جويتا ورئيس روسيا فلاديمير بوتين

القاهرة الإخبارية - ساجدة السيد

في ظل تصاعد التنافس الدولي على النفوذ داخل قارة إفريقيا، بالأخص في منطقة الساحل، التي تشهد تحولات سياسية وأمنية متسارعة، تبرز زيارة الرئيس المالي أسيمي جويتا، إلى موسكو، 23 يونيو 2025، كعلامة فارقة في مسار العلاقات الدولية لباماكو. فبعد تراجع النفوذ الفرنسي التقليدي وابتعاد القوى الغربية عن المشهد المالي، تتجه مالي نحو بناء شراكة استراتيجية جديدة مع روسيا، التي تسعى بدورها إلى توسيع وجودها وتعزيز تأثيرها في منطقة حيوية تمثل بوابة رئيسية للنفوذ الإقليمي في إفريقيا. وتحمل الزيارة في طياتها إشارة واضحة إلى رغبة الطرفين في تجاوز مجرد التعاون المؤقت إلى شراكة شاملة تتناول ملفات أمنية، واقتصادية، واستراتيجية بعيدة المدى. ومن هنا، تُمثل الزيارة نقطة تحول تعكس عمق التحولات في خارطة النفوذ الإفريقي، وتعيد رسم التوازنات في الساحل، بما يؤسس لمحور جديد في العلاقات الدولية يتجاوز العلاقات الثنائية ليؤثر في المشهد الإقليمي والدولي.

انطلاقًا من السياق ذاته، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ماذا تحمل زيارة رئيس مالي أسيمي جويتا إلى موسكو؟

أهداف الزيارة ورسائلها

جاءت زيارة جويتا إلى موسكو مُحمّلة بجملة من الأهداف الاستراتيجية، تعكس تطلعات باماكو لإعادة صياغة أولوياتها، تتمثل في:

(*) تثبيت الشراكة الأمنية بعد انسحاب "فاجنر": تزامن توقيت زيارة رئيس مالي إلى موسكو مع إعلان انسحاب مجموعة "فاجنر" الروسية من مالي، في الثامن من مايو 2025، وهو تطوُر أعاد فتح ملف مستقبل الوجود الأمني الروسي في البلاد، خصوصًا أن "فاجنر" كانت تضطلع بدور ميداني فاعل منذ عام 2021، ورغم أن الانسحاب لم يكن مفاجئًا، فإنّه أثار تساؤلات عن مدى التزام موسكو باستمرار دعمها العسكري لباماكو. غير أن الرد الروسي جاء سريعًا بإطلاق "فيلق إفريقيا"، التابع مباشرة لوزارة الدفاع الروسية، لتولي المهام الأمنية نفسها ولكن بصيغة أكثر تنظيمًا وشرعية. ومن هنا، شكّلت الزيارة محطة محورية لتثبيت هذا التحول، ووضع أسس واضحة للتعاون الأمني المستقبلي، سواء على مستوى الهيكل التنظيمي للفيلق، أو طبيعة مهامه، أو آليات تمويله.

(*) تأكيد التحالف السياسي مع الكرملين: منذ استلام المجلس الانتقالي للسلطة في مالي عام 2020، سلكت باماكو طريق الانفصال التدريجي عن المحور الغربي وعلى رأسه فرنسا، متجهة بثبات نحو شراكة استراتيجية مع روسيا. ورسّخت زيارة جويتا هذا الخيار، لتكون بمثابة إعلان واضح عن تحالف سياسي مع الكرملين، يقوم على دعم غير مشروط. وبتضمين الكرملين في بيانه الرسمي قضايا التعاون في مجالات الطاقة والتجارة والوضع الإقليمي والدولي، اتضحت ملامح تقارب استراتيجي عميق، يتجاوز حدود التنسيق الظرفي، ويؤسس لتحالف طويل الأمد بين الجانبين الروسي والمالي.

(*) تنويع مجالات التعاون بعيدًا عن الطابع العسكري: حرصت زيارة جويتا إلى موسكو على توسيع نطاق التعاون الثنائي في مجالات استراتيجية تمس جوهر الاقتصاد المالي، وبعد أشهر من التحضير الفني والسياسي، جرى التوقيع على اتفاق نهائي بشأن الاستخدام السلمي للطاقة النووية، التي تشمل مجالات "إنشاء وتحسين البنية التحتية النووية في مالي وفقًا للتوصيات الدولية؛ والتنظيم في مجال السلامة النووية والإشعاعية، وإنتاج النظائر المشعة واستخدامها في الصناعة والطب والزراعة؛ والتعاون في مجال تطبيق تكنولوجيات الإشعاع والطب النووي، وتدريب وإعداد وإعادة تدريب المتخصصين في الصناعة النووية"، إلى جانب بحث مشروعات في قطاعات البنية التحتية والطاقة والنقل.

كما تم تدشين مشروع مشترك لمعالجة الذهب "إنشاء مصفاة صناعية للذهب في باماكو" تتولى بناءها شركة "يادران" الروسية، ويتوخى منها أن تكون قادرة على معالجة 200 طن سنويًا، بحيث تمتلك مالي أكثر من 60% من حصة المصفاة، بما يُعد مؤشرًا واضحًا على اتساع رقعة الشراكة الاقتصادية.

(*) تحقيق التوازن الإقليمي عبر "تحالف دول الساحل": تمتد دلالات زيارة الرئيس المالي إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية لتطال مجمل الإقليم، في ظل سعي روسي واضح لترسيخ تحالفها مع "تحالف الساحل الإفريقي"، الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهي دول شهدت توترات سياسية متتالية بين عامي 2020 و2023، وقررت الانفصال عن المحور الفرنسي وانسحبت أيضًا من منظمة الإيكواس. وتُشكّل زيارة جويتا إلى موسكو تأكيدًا عمليًا لهذا التحالف المتصاعد، الذي ترى فيه موسكو فرصة لبناء محور استراتيجي بديل في قلب الساحل، يعيد رسم موازين القوى في القارة. وبهذا المعنى، تحمل الزيارة رسالة واضحة بأن روسيا ليست مجرد داعم عسكري عابر، بل لاعب إقليمي يسعى لتكريس حضوره كقوة موازية للنفوذ الغربي المتراجع في إفريقيا.

تداعيات الزيارة

تفتح زيارة الرئيس المالي إلى موسكو الباب أمام جملة من التداعيات الإقليمية والدولية، تتجاوز إطار العلاقات الثنائية لتطال توازنات النفوذ في الساحل الإفريقي برمته، منها:

(*) تعزيز موقع جويتا داخليًا: على المستوى الداخلي، تُشكل زيارة رئيس مالي إلى موسكو، فرصة لتعزيز شرعيته السياسية وسط تحديات متزايدة، من خلال إبراز الدعم الروسي غير المشروط للنظام، ما يتيح له مواجهة المعارضة المحلية والانتقادات الحقوقية الدولية بحجة وجود شريك قوي يحمي مصالح البلاد. إضافة إلى ذلك، تسعى باماكو عبر هذه الزيارة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة، عبر توقيع اتفاقيات استثمارية ومشروعات تنموية، من شأنها تخفيف حدة الأزمات الاقتصادية والأمنية التي تعصف بالبلاد. بهذا المعنى، تتجاوز الزيارة إطار العلاقات الدولية، لتصبح ورقة داخلية تدعم النفوذ الشخصي والعسكري لجويتا، وتسهم في ترسيخ موقعه بالسلطة.

(*) تعزيز التعاون الاقتصادي: تمثّل الاتفاقيات الموقعة مع روسيا فرصة لباماكو لإنعاش قطاعات حيوية، تعاني تدهور البنية التحتية ونقص الاستثمارات، خصوصًا في مجالَي التعدين والطاقة. ومع توقيع اتفاقية الاستخدام السلمي للطاقة النووية، فإن البلاد قد تدخل مرحلة جديدة من الإنتاج المحلي للكهرباء، ما يخفف من أعباء الاستيراد، ويفتح فرصًا جديدة للتنمية الصناعية. ومن جهة أخرى، فإن الاستثمارات الروسية في قطاع الذهب - الذي يُمثل عصب الاقتصاد المالي - ستوفر للدولة مداخيل إضافية بالعملة الصعبة، وقدرة على تمويل خططها في البنية التحتية والمشروعات الاجتماعية، دون الحاجة إلى قروض خارجية مشروطة من صندوق النقد الدولي أو الاتحاد الأوروبي.

(*) ترسيخ الوجود الروسي في منطقة الساحل الإفريقي: مع انسحاب فاجنر الروسية وتدشين "فيلق إفريقيا" التابع لوزارة الدفاع الروسية، تجاوزت موسكو مرحلة الاعتماد على المرتزقة لتدخل بشكل رسمي أكثر تنظيمًا وعبر الحدود، ما يمهد الطريق لتطبيق هذا النموذج في دول أخرى مثل النيجر وبوركينا فاسو. في السياق ذاته، تتحول مالي إلى منصة إقليمية انطلاق للقوات الروسية، خاصة في ظل تفكك المؤسسات الإقليمية التقليدية كالإيكواس وضعف التنسيق الأمني، ما يمنح موسكو موقعًا استراتيجيًا فريدًا يمكنها من تصدير رؤيتها الأمنية وتوسيع نفوذها في منطقة الساحل الإفريقي.

(*) إرباك حسابات فرنسا والغرب: إن زيارة جويتا إلى موسكو، وتوقيع الاتفاقيات العسكرية والنووية والاقتصادية، تأتي في إطار محاولة واضحة لإحراج باريس وبروكسل وواشنطن، التي عجزت عن الحفاظ على نفوذها التقليدي في باماكو. وتحمل هذه الزيارة رسالة سياسية صريحة مفادها أن مالي، إلى جانب "تحالف دول الساحل"، لم تعد تعتبر الغرب شريكًا موثوقًا، بل تنظر إلى البديل الشرقي، ممثلًا في روسيا وربما الصين مستقبلًا، كقوة قادرة على ملء الفراغ بفعالية سياسية وعسكرية واقتصادية.

ختامًا، يمكن القول إن زيارة رئيس مالي أسيمي جويتا، إلى موسكو ليست مجرد محطة دبلوماسية عابرة، بل تُمثل تحولًا استراتيجيًا يؤشر إلى انخراط مالي، ومعها دول الساحل، في لحظة إعادة تموضُع إقليمي ودولي حاسمة. وفي ظل تراجُع النفوذ الغربي وتصاعُد التحديات الأمنية، اختارت باماكو شق طريقها نحو شراكات بديلة أكثر توافقًا مع أولوياتها الداخلية وأقل ارتباطًا بإملاءات الخارج. ومع أن الزيارة فتحت آفاقًا واعدة في مجالات الأمن والطاقة والتعاون الاقتصادي، إلا أن ترجمة تلك الوعود إلى واقع فعلي سيظل مرهونًا بقدرة الطرفين على الحفاظ على هذا الزخم وسط عالم يتغير بسرعة وتحالفات لا تثبت طويلًا.