بخطوات لم يكن يدرى أنها ستحدد مصير حياته، دخل الممثل المصري حمدي غيث مع والدته للمرة الأولى إلى دار الأوبرا المصرية ليشاهد عرضًا مسرحيًا بعنوان "مصرع كليوباترا" عام 1937 من تأليف أحمد شوقي، ليرى الشاب الصغير وقتها نجومًا بحجم زينب صدقي وحسين رياض وزكي رستم وسراج منير، هذه اللحظات الأولى لمعرفته بالمسرح ظلت في وجدانه يستشعرها دائمًا، ولم يغب عن ذهنه هذا العالم الرائع الذي دخله وعمره 12 عامًا، ليتمنى وقتها أن يجسد دور أنطونيو، الأمر الذي تحقق بالفعل في فترة الدراسة بالمرحلة الثانوية على خشبة مسرح المدرسة.
"حمدي غيث" الذي ولد في مثل هذا اليوم 7 يناير من عام 1924، شارك في عدة مسرحيات مع رفاق المدرسة الثانوية وطلبة كلية الحقوق التي التحق بها، لكن عندما وصلت لمسامعه أخبار عن تأسيس أول معهد للتمثيل، ذهب مُسرعًا ليُقدم أوراقه وسط آلاف وقتها من المواهب التي تبحث عن أكاديمية متخصصة في التمثيل لإصقال موهبتهم، وتم قبوله ليتخرج فيها عام 1947 ويصبح الأول على دفعته التي ضمت فريد شوقي وشكري سرحان ونعيمة وصفي وكمال حسين وعبد الرحيم الزرقاني، وغيرهم من الفنانين.
الفن موهبة وتجربة حياتية
"الفن موهبة ثم ثقافة وتجربة في الحياة"، كلمات تحاول وصف الركائز الأساسية التي اعتمد عليها الممثل الراحل وجعلته أحد أبرز ممثلي جيله، فمع تمتعه بالموهبة، وقبل دخوله معهد التمثيل كان مُحبًا للإطلاع على معظم الكتب والروايات الصادرة لعدد كبير من كُبار الكتّاب، ومنهم نجيب محفوظ وطه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، لتُشكّل جزءًا كبيرًا من ثقافته، خصوصًا أنه عشق الأدب والشعر بعدما رأى النجوم على خشبة المسرح يتغنون بأشعار أحمد شوقي.
ريتشارد قلب الأسد
"الطموحات كانت كثيرة وضخمة ولم أحقق منها سوى القليل".. هكذا وصف حمدي غيث مشواره الفني في لقاء تلفزيوني قديم، موضحًا أنه أثناء فترة الدراسة بالمعهد وقبلها كان لديه الكثير من الطموحات لا يعتقد أنه حقق جزءًا كبيرًا منها، رغم كل ما قدمه من أعمال محفورة في الوجدان، ومنها دوره الشهير في فيلم "الناصر صلاح الدين" الصادر عام 1963 تحت إدارة المخرج يوسف شاهين، مجسدًا دور ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، الذي يعتبر أحد أهم أدواره السينمائية، إذ تغلب في هذا الدور على ملامحه الشرقية التي تُميزه بماكياج وملابس الملك وطريقة أداء هادئة.
في مشهد المُحاكمة الشهير بفيلم "الناصر صلاح الدين" يظهر جليًا قدرة حمدي غيث في الأداء، فالمشهد الذي تم تصويره بطريقة أشبه بالأسلوب المسرحي، كان الملك ريتشارد صامتًا طوال الحوار لا ينطلق بكلمة، لحظات صمت يستغلها في القدرة على استحضار الانفعال في نهاية المشهد، وبأداء تراجيدي ينهي المحاكمة.
أدوار كوميدية
الملامح الجادة لحمدي غيث وعشقه لتجسيد الأدوار الجادة رسمت ملامح مشواره الفني، لكنه كان يخرج أحيانًا في نزهة لأدوار كوميدية بين الحين والآخر، ومنها دوره في مسرحية "فلوس فلوس" و"زوربا المصري"، و"ملك يبحث عن وظيفه"، وفي المسرحية الأخيرة نراه بشكل مختلف تمام، إذ يتحدى نفسه بملامح شخصية مختلفة تمامًا، فهو المُهرج الذي يضع ألواناً مُبهجة على وجهه ويُضحك الجمهور، بشكل يجعل المتابع لأعماله يتساءل كيف لمَن قدّم هذا الدور على المسرح يعود إلى السينما بعدها بـ4 سنوات فقط عام 1976 بشخصية "أبو سفيان" في الفيلم العالمي "الرسالة"، إخراج مصطفى العقاد.
الشقيق والابن عبد الله غيث
يُعد "الرسالة" أحد الأعمال الفنية التي جمعت بين حمدي غيث وشقيقه الأصغر عبد الله غيث، ليُضاف إلى قائمة أعمال ليست كثيرة لكنها شهيرة، ومنها المسلسل التلفزيوني "ذئاب الجبل" أحد أبرز المسلسلات التي عرضت في تسعينيات القرن الماضي، وكانت تربطهما علاقة قوية، قال عنها الأخ الأكبر إنه كان يعتبره بمثابة ابنه وليس شقيقه فقط، لأن والدهما توفي ولم يتجاوز عامه الأول لذا شعر تجاهه بمسؤولية شديدة، دفعته إلى تشجيعه لدخول معهد التمثيل واحتراف الفن لأنه شعر بموهبته.
أصيب حمدي غيث بحالة حزن شديدة عقب وفاة شقيقه عبد الله عام 1993، ووافق على أن يستكمل دوره في الجزء الثاني من مسلسل "المال والبنون" مجسدًا شخصية "عباس الضو" العامل البسيط بمحلات الصاغة، ليرتدي نفس جلباب شقيقه بالمسلسل الشهير ،وكأنه يعبر عن اشتياقه له.
ورحل حمدي غيث عن عالمنا عام 2006 ليفقد الوسط الفني المصري والعربي موهبة فنية، لكن المواهب لا تنضب في مصر، فالفنان الراحل كان يؤمن بأن المواهب الفنية العظيمة لا تغيب عن مصر، رافضًا الاتهامات التي تطلق لنفسها العنان في الهجوم على الأجيال الجديدة بأنها لا تُقارن بما قدّمه السابقون، مشيرًا إلى أن كل جيل له ظروفه التي تحدد ملامحه، وأن مصر لن تُصاب بالعقم الإبداعي أبدًا وهناك الكثير من الممثلين المتميزين يظهرون في كل الأجيال.