بعد 553 يومًا من الحرب في السودان تعرض اقتصاد البلاد لصدمة كبيرة في جميع قطاعاته، فالحرب تُعتبر من الأمور الهدامة لأساسيات اقتصاد أي دولة، إذ قدر الخبراء خسائر الاقتصاد السوداني بحوالي 200 مليار دولار منذ اندلاع الحرب، ومن ناحية أخرى تسببت الحرب في نزوح عدد كبير من السودانيين إلى البلدان المجاورة، خاصة مصر، فوفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 8.1 مليون شخص نزحوا من منازلهم في السودان.
وتأسيسًا على ما سبق، يُحاول هذا التحليل التعرف على الوضع الاقتصادي في السودان بعد عام ونصف العام من الحرب، والسيناريوهات المُستقبلية للاقتصاد في ضوء هذا الوضع.
مؤشرات توضيحية
يُمكن التعرف على مؤشرات الاقتصاد السوداني خلال الفترة الأخيرة في النقاط التالية:
(*) معدل النمو الاقتصادي: تضرر معدل النمو الاقتصادي في السودان بشكل كبير منذ بداية الحرب، فكما يوضح شكل (1) ازداد معدل النمو سوءًا في عام 2023، وبشكل تحليلي مُفصل فإن السودان حقق معدلات نمو موجبة خلال الفترة من 2012 إلى 2017، وكان أعلى معدل نمو سنوي في عام 2015، ولكن بداية من عام 2018، بدأ الاقتصاد السوداني يُعاني من الانكماش، بنسب 2.3% و2.5% و3.6% و1.9% و1% في الأعوام 2018 و2019 و2020 و2021 و2022 على التوالي، إلى أن ارتفع هذا الانكماش بشكل أكبر في عام 2023، مسجلًا 12.3%، وهي نسبة كبيرة توضح الضرر الكبير الذي أصاب قطاعات الاقتصاد السوداني، وقد توقع وزير المالية السوداني "جبريل إبراهيم" أن يصل الانكماش في الاقتصاد السوداني إلى حوالي 28% في عام 2024.
(*) معدل التضخم: تسببت الحرب في رفع معدلات التضخم بشكل كبير بالمُقارنة بشهر يناير 2023 كما يُشير شكل (2)، إذ ارتفع من 83.6% في يناير 2023 إلى 146.6% في ديسمبر 2023، ثم ارتفع في أغسطس 2024إلى 218.8%، مُقارنة بـ 193.94% في يوليو 2024، وهو الأمر الذي يوضح التأثير الكبير للحرب على مستويات الأسعار في السودان، مما قلل من القدرة الشرائية للمواطن السوداني بشكل كبير للغاية.
(*) سعر الصرف: انهارت العملة الوطنية في السودان بشكل كبير منذ الـ 15 من إبريل 2023، إذ أصبح الدولار يُتداول بأكثر من 1000 جنيه سوداني بعد الحرب، بالمُقارنة بحوالي 600 جنيه سوداني قبل الحرب، وانخفضت قيمة العملة الوطنية بنسبة 150% عن مستواها قبل الحرب.
وعلى الرغم من استقرارها على المستوى الرسمي في 16 أكتوبر 2024 بأن سجل الدولار 601.5 جنيه سوداني، انخفضت قيمتها في السوق الموازي بشكل كبير، ففي السادس عشر من أكتوبر تراوح سعر شراء الدولار بين 2600 و2800 جنيه سوداني، كما بلغ سعر البيع حوالي 2850 جنيهًا سودانيًا، ولما كان سعر الدولار في السوق الموازي هو المحدد الأساسي لسعر الصرف، يُمكن القول إن تدهور قيمة العملة الوطنية للسودان يرجع إلى عمليات طباعة النقود التي تقوم بها الدولة؛ لتمويل متطلبات الحرب، ويرجع كذلك إلى ضغط الطلب من قبل النازحين على مدخراتهم المحلية ورغبتهم في تحويلها إلى عملة صعبة.
(*) انخفاض الصادرات: تعرضت الصادرات السودانية إلى الانخفاض بشكل كبير؛ بسبب تأثير الحرب على المنافذ التصديرية، إذ انخفض إجمالي التجارة في السلع والخدمات بين السودان والمملكة المتحدة بنسبة 44.8% حتى نهاية الربع الأول من عام 2024، وكما يوضح شكل (3) انخفضت صادرات السلع من 5.03 مليار دولار في عام 2021 إلى 4.78 مليار دولار في عام 2023.
بالإضافة إلى ذلك أثرت الحرب على صادرات النفط بشكل ملحوظ للغاية، إذ إن بورتسودان تعتبر محطة تصدير أساسية، كما توقفت صادرات النفط بعد الانفجار الكبير الذي حدث في خط الأنابيب الذي يقع في شرق السودان، وبعد الحريق الشديد الذي حدث لمصفاة الخرطوم للنفط في يونيو 2024، وكذلك قطع طرق تجارة النفط من جراء الحرب في السودان، إذ تعتمد على خطي أنابيب؛ لنقل خام النفط إلى بورتسودان ثم إلى البحر الأحمر، وهو الطريق المسؤول عن ثلثي صادرات النفط في السودان؛ مما أفقد البلاد عائدات بقيمة مليارات الدولارات.
خسائر القطاعات
يعود التراجع الكبير في مؤشرات الاقتصاد السوداني إلى خسائر القطاعات التي سيتم توضيحها فيما يلي:
(&) انهيار القطاع الزراعي: يُعتبر القطاع الزراعي من القطاعات الأكثر أهمية في الاقتصاد السوداني، إذ إنه يُساهم بنسبة 40% في الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل به 58% من القوى العاملة، ونتج عن الحرب الدائرة تدمير حوالي 65% من هذا القطاع، حيث تسبب الصراع في إلحاق ضرر كبير في البنية التحتية وتعطيل الخدمات والصناعات الزراعية، كما انخفضت إنتاجية المحاصيل الزراعية التي تُحقق الأمن الغذائي مثل الذرة الرفيعة والدخن بنسبة 42% و64% على الترتيب؛ بسبب نقص الكهرباء والبذور المُحسنة والأسمدة والتمويل، كما تضرر سوق الماشية بشكل كبير؛ بسبب انقطاع طرق التجارة، وبالإضافة إلى ذلك خرج مشروع "الجزيرة" الذي يُعد أكبر المشروعات الزراعية في السودان عن الدورة الزراعية؛ نتيجة الصراع الدائر، وبسبب مساهمة هذا المشروع بنسبة 65% من إنتاج البلاد من الذرة والقمح والقطن والمحاصيل البستانية، ويُعد خروجه من الدورة الزراعية انهيارًا كبيرًا للقطاع الزراعي في السودان، ويُفاقم من حالات سوء التغذية.
(&) تضرُر القطاع الصناعي: يحتل القطاع الصناعي موقعًا مهمًا في ركائز الاقتصاد السوداني، فوفقًا لبيانات وزارة الصناعة، يُساهم القطاع بنسبة 17% من الناتج المحلي الإجمالي في السودان، ونتيجة لتركز معظم المصانع في العاصمة "الخرطوم"، فإن حجم الضرر على هذا القطاع كبير للغاية، إذ ترتب على الصراع تدمير حوالي 80% من البنية التحتية للقطاع، والتي تقدر خسائرها بحوالي 50 مليار دولار، حيث دمرت الحرب حوالي 550 مصنعًا في الخرطوم وأم درمان، الأمر الذي ترتب عليه تشريد حوالي 250 ألف عامل، إذ تدمرت 90% من المصانع في الخرطوم؛ بسبب الحرب، بحسب بيانات وزارة الصناعة.
(&) تأثُر قطاع الطاقة: تُعد صناعة النفط والغاز من الصناعات المهمة في السودان، والتي يؤثر تراجعها على الاستقرار الاقتصادي في الدولة، فالحرب أثرت بشكل كبير على المناطق الغنية بالنفط والغاز، إذ تسببت الصراعات في تدهور التربة وفقدان التنوع البيولوجي، وهو الأمر الذي ترتب عليه انخفاض إنتاج السودان من النفط، كما يوضح شكل (4)، إذ انخفض معدل الإنتاج من 67 ألف برميل/ يوم في يوليو 2023 إلى 30 ألف برميل/ يوم، وذلك وفقًا لبيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
(&) تضرر القطاع المصرفي: تعرض القطاع المصرفي في السودان إلى ضرر كبير منذ الـ15 من أبريل 2023، إذ حدثت عمليات نهب للعديد من المصارف، كما أن انخفاض قيمة العملة الوطنية، أدى إلى تآكل رأس مال البنوك السودانية، الأمر الذي جعلها لا تستطيع أن تواجه طلبات عملائها من النقد الأجنبي والتمويل، وبالإضافة إلى ذلك توقف حوالي 70% من فروع البنوك في مناطق المعارك، إذ يبلغ عدد فروع البنوك في السودان حوالي 833 فرعًا، تستحوذ الخرطوم على 435 فرعًا، وهو الأمر الذي يعني أن حوالي 583 فرعًا مصرفيًا أغلق في السودان، مما يرجح أن معظم الفروع المصرفية في الخرطوم أُغلقت.
(&) تضرُر قطاع الخدمات: تدهور قطاع الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والكهرباء والاتصالات منذ اندلاع الحرب، فمع استمرارها لمدة عام ونصف العام، فقد قطاع الخدمات 70% من وحداته، إذ دُمر العديد من شبكات المياه والكهرباء والوقود والمنشآت الصحية والتعليمية، وهو الأمر الذي تسبب في مُعاناة 60% من مناطق البلاد من النقص الحاد في إمدادات الكهرباء والمياه وخدمات الاتصالات.
سيناريوهات مُستقبلية
إن الوضع الحالي للاقتصاد السوداني يترتب عليه أحد السيناريوهين التاليين:
(-) انحدار معتدل مع تعافي بطيء: بُناءً على المؤشرات الاقتصادية للسودان في آخر عام 2023 بأن الاقتصاد السوداني انكمش بنسبة 12%، يُمكن بلورة هذا السيناريو بانخفاض الانكماش في الاقتصاد من 12% في عام 2023 إلى 3.7% في عام 2024 و0.7% في عام 2025، ومن حيث القطاعات الاقتصادية، فبحسب هذا السيناريو سينخفض انكماش القطاع الزراعي من 7.9% في عام 2023 إلى 2% فقط في عام 2024، ثم يرتفع إلى 1.1% في عام 2025، بينما يحتاج القطاع الصناعي إلى فترة تعافٍ أطول، إذ انكمش بنسبة 11.6% في عام 2023، وهو الأمر الذي لا يضع أي توقعات بنموه حتى عام 2026، كما أن انكماش قطاع الخدمات بنسبة 16% في عام 2023، تؤخر تعافيه إلى عام 2026، بأن يُحقق نسبة نمو 1.6% فقط في هذا العام، وعليه يُعتبر هذا السيناريو من السيناريوهات التي تؤيد أن الدمار الكبير الذي حدث في السودان يحتاج إلى وقت حتى يُمكن التخلص من آثاره.
(-) انخفاض حاد مع انتعاش سريع: يتوافق هذا السيناريو مع تقديرات صندوق النقد الدولي، بأن الناتج المحلي الإجمالي في السودان انخفض بنسبة 18% في عام 2023، إذ يفترض هذا السيناريو حدوث تحول إيجابي في النمو الاقتصادي في عام 2024، ولكن سيكون بنسبة متواضعة تُقدر بحوالي 0.3%، ثم يرتفع إلى 0.7% في عام 2025، ثم إلى 4.5% و4.7% في السنوات التالية.
ومن الجدير بالذكر أن السيناريو الأقرب للوضع في السودان هو السيناريو الأول (التعافي البطيء)؛ ويرجع ذلك إلى أن التدمير الذي حدث في البنية التحتية للسودان ليس بالسهل على الاقتصاد أن يتداركه بشكل سريع، كما أن هذين السيناريوهين سيترتب على أي منهما آثار اجتماعية شديدة الخطورة على السودان، إذ من المتوقع أن يقع ملايين الأشخاص تحت خط الفقر، كما أن مستويات الاستهلاك ستستمر في الانخفاض عن مستواها قبل الصراع، وهو الأمر الذي يدل على أن الشعب السوداني سيُعاني من تأثيرات ويلات الحرب لفترة ليست بالقليلة.
وفي النهاية،يُمكن القول إن الاقتصاد السوداني تأثر سلبيًا بشكل كبير من جراء الحرب، وهو الأمر الذي يجعل إصلاحه يتخذ مسارات عدة، أولها إنهاء الحرب بشكل كامل وإعادة الاستقرار السياسي إلى البلاد، وثانيها يعتمد على إنعاش القطاع الزراعي، إذ إن القطاع الزراعي في السودان يتمتع بإمكانات وفرص كبيرة تُمكن الاقتصاد من الانتعاش، وثالثها يتمحور في الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية، مثل الكهرباء وإمدادات المياه.